الوحي والوعي

الوحي والوعي

عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول».


[باب بدء الوحي، صحيح البخاري (1/ 6)]


مقدمة

الحمد لله على النبي الخاتم، والكتاب المهيمن، والدين الكامل، والنعمة التامة، والإسلام المرضي عنه عند ربنا عز وجل، والأمة الوسط الشاهدة على الناس.

لقد منَّ الله علي بدراسة مفهوم "الوعي" فجمعت استعمال العرب لمادة (و ع ى) من المعاجم المشهورة، ومواضعها في كتاب الله تعالى، وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، ثم اجتهدت في بلورة المفهوم من خلال ما وصلت إليه من نتائج، وكان من أحسنها وأجملها الظفر بثنائية "الوحي والوعي"، فقد وجدت أن الوعي اقترن في بعض النصوص بالوحي، كما في حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي، ثم تأملت النصوص مرات ومرات، وتأملت في تعبير الصحابة رضوان الله عليهم بـ "الوعي" عند تحمل وأداء الوحي، ثم اجتهدت في قراءة تطور استعمال الأمة لهذه الثنائية، وهل كانت مستعملةً في الفهم والإفهام، أم قصروها على التحمل والأداء، وهل كانت معبرةً في الجملة عن الصلة بين كلام الله وفهم واستيعاب الإنسان، أم أن الأمة استعملت ثنائيات أخرى للتعبير عن ذات المسألة، كالتنزيل والتأويل، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، والسمع والعقل، والمعقول والمنقول أو "العقل والنقل"، وخرجتُ بجملة من النتائج والأفكار التي سأقدمها في هذا الكتاب للقارئ الناقد، ولعموم القراء، علهم أن يجدوا فكرةً حيوية تفتح لهم بعض الآفاق، أو رأيًا ناقصًا فيتمم، أو حكمًا يحفزهم لمزيد عناية وبحث، أو فهمًا يجعلونه قنطرةً لما هو أبلغ منه(١) في فقه الصلة بين الوحي الإلهي والوعي البشري.


أشكر الله تعالى على ما منّ به، وأسأله المزيد من التوفيق والرشد وحسن العمل، ومن شكره تعالى شكر والديّ الكريمين، أدام الله ظلهما، وأسبغ عليهما لباس الصحة والعافية، ورزقهما الرضا والطمأنينة وبرد اليقين وحلاوة الإيمان، كما أشكر زوجتي الكريمة وعائلتي الصغيرة، وكل من تكرم عليّ بقراءة هذا البحث وتطوير أفكاره بكلمةٍ أو نقدٍ أو حوار بنّاء، وأخص منهم الثلة المكية المباركة: طلال الزايدي، وخالد القرشي، وعبدالله الطارقي، ومحمد الأنصاري، وعبدالكريم الحازمي، وريم السعيدي، ومحمد النويرة، وأدعو الله تعالى أن نكون وإياكم من الذين منَّ الله عليهم بفهمٍ في كتابه، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، ويهدينا سبل السلام، ويخرجنا من الظلمات إلى النور، ويهدينا إلى صراط مستقيم.


ذاكرتنا والجناية على الوحي!

إن الميراث الذي ورثته هذه الأمة عظيمٌ، والمسؤولية كبيرة، والأمانة ثقيلة، غير أن الله خصها بكثير من الخصائص، وأنعم علينا بكثير من النعم، ليكون التكليف مستطاعًا، والواجب مقدورًا عليه، وإن أعظم ما في هذا الميراث هو فقه الصلة بين الله والإنسان، وبين كلام الخالق وفهم المخلوقين، وبين المرادات الإلهية والاستجابات البشرية، وهذا الميراث متجذرٌ متفرعٌ، متقدمٌ متجددٌ، لكل أحدٍ أن يأخذ منه بحظٍ وافر، وبنصيبٍ موفور، ولا يكون ذلك إلا بحقه، وحقُه العلم، والفقه، والوعي.


وإن من الجناية على هذا الميراث المتصل بالله وملائكته وكتبه ورسله أن نساوي بينه وبين بقايا الأفكار والفلسفات والاجتهادات والتجارب البشرية، هذه الجناية التي لم تعِ إلهية الخالق، ولم تنطلق من مركزية الخلق والأمر، ولم تستوعب حقيقة الوحي، ولا طلاقة العلم والحكمة والإرادة الإلهية، ولا خاتمية الهداية النبوية، ولا محدودية العقل البشري.


وكما أن هذه جنايةٌ ظاهرةٌ على الوحي الإلهي والميراث النبوي، إلا أن هناك جنايات تقابلها؛ فالجامدون على النصوص بدون فقه جُناة، والمقفلون لأبواب الاجتهاد جُناة، والمتمذهبون المتعصبون جُناة، والداخلون على الوحي بأجندتهم وفهومهم الخاصة جُناة، وقطاع الطرق دون الفهم البليغ لكلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم جُناة أيضًا.


إن ذاكرتنا اليوم مليئةٌ بصور الجناية على الدين وجودًا وعدما، فمِن رد الدين وعدم التسليم لرب العالمين، إلى محاولة الزيادة على الهدي النبوي الخاتم، ومرورًا بالتأويل الفاسد، وتتويجًا لصور اختزال ونمذجة الدين في الشيخ والمذهب والطريقة والجماعة! تُرى هل تسعفنا هذه الذاكرة لنكون أوعى؟!

الأمر الذي نستطيع الجزم به للإجابة على هذا السؤال هو حاجتنا لإعادة النظر في جوهر الصلة بين الوحي الإلهي والوعي البشري، وكيف تطورت عملية الفهم والإفهام في ضوء هذه الثنائية الأصيلة؟


كم نحن بحاجة إلى الخروج من الصور الجزئية، والتطبيقات الفرعية، والارتفاع إلى أعلى مستوى ممكن من التصور الكلي لمشاهدة عالم الأفكار، ولمشاهدة الفكرة أيًا كانت، وكيف بدأت؟ وكيف تطورت؟ وما ظروف نشأتها وتطورها؟ وبأي اتجاه كان هذا التطور؟ وما القيمة المضافة لمن شارك في بلورة وتطوير هذه الفكرة؟ وهل عاد هذا التطور على أصل الفكرة بالنقض أو أدى إلى تقويضها؟ أم نسج على منوالها أفكارًا من جنسها؟


نحن بحاجة إلى اختبار الوعي السائد في كل مرحلة وفق هذه الصلة، وما تطور عنها من مفاهيم وتفسيرات وأدوات ومنهجيات بحسب اجتهادات المجددين والعلماء المحققين، لا بحسب ما آلت إليه الفهوم المدرسية والمذهبية الجامدة.


العقل والنقل.. هل من جديد؟ (.)

رغم ثراء الجهود التراثية في مسألة العقل والنقل، وعلو قامة المشتغلين بها، وضخامة المسائل والدلائل المتعلقة بهما، وتأثير هذه الثنائية في المستويات المنهجية والإجرائية، إلا أن الحاجة متجددة لآفاق أوسع وتجليات أعمق كلما تجددت الظروف والأحوال، بل هناك رغبةٌ ملحةٌ في تأصيل لمنطقٍ آخر يلبي فاقَةَ اليوم وحاجة الغد، ويعيننا على تجاوز المواقف الجدلية، والشروع في مستوى آخر، يستنطق هداية الوحي الإلهي، ويترجم دراية الوعي البشري، ويشارك في صنع المستقبل، ويسهم بفاعليةٍ في الحضور الثقافي والتدافع الأممي.


إن هذا الشعور تزامن مع توارث الأجيال لجدل مكرور في مسألة العقل والنقل هذه، جدلٍ بدأ في أول أمره مُنتِجًا للمعرفة ومؤثرًا في الفكر والثقافة والعمل، وآل به الحال إلى تفكيرٍ عقيم يُصنِّفُ ويُخَندِقُ ويُطفئ نور الاجتهاد، ويغذي ذهنية التقليد، حتى وصلنا بشكل حدي إلى مسلكين مهيمنين على فكر ونتاج العقول المسلمة طيلة قرون:

المسلك الأول: الممانعة ضد أي اجتهاد تفسيري أو مفهومي لهذه المسألة بدعوى الثبات على الحق، والمحافظة على الثوابت، وحماية النقل!

والمسلك الثاني: الاقتحام الجائر على نصوص الوحي بدعوى التجديد والإصلاح، ونبذ الجمود والتقليد، وإعمال العقل!


وبطبيعة الحال هناك مسلك ثالث لا تخلو منه جهود الأمة بحمد الله تعالى، وهو المسلك التجديدي الذي ينقذ الموقف في كل مرة، فهو أكثر حظوةً واتصالاً بالوحي، وقدرةً وتواصلاً مع الوعي.


وقبل البدء، فهذا الكتاب محاولةٌ نقدية تهدف لإعادة النظر في جوهر المسألة، وأُسِّ العلاقة بين الله والإنسان، وكُنهِ الصلة بين الكلام الإلهي والفهم البشري. ورغم غُربة النظر الجديد في الأعراف والمسلمات التراكمية، إلا أن الجسارة على البحث والنقد والمراجعة هي شرط التجديد، ورغم تدافع المصطلحات التاريخية، وتزاحم المفاهيم الماضية، وضخامة التفسيرات المهيمنة والتي لا يكاد يخلو منها جهد عالمٍ، أو مفكرٍ، أو فيلسوف، أو شارحٍ، أو ناقد، إلا أن التجديد سيطال كثيرًا من الثنائيات التي دخلنا في أُتونها ورضينا بما قُسم للسابقين من الفهم فيها، واكتفينا باجتهادهم المرتبط بظرفهم دون أن نبذل وسعنا بما يناسب ظرفنا، ونخرج من الخلاف والجدل الماضي، ونجعله منصةً للمعرفة والحراك القادم.


يبدو أن جدلية العقل والنقل، وما ينضم تحت لوائها، من أهم فرص التجديد، لا باتجاه النقض بل باتجاه الإبرام لمصلحة الوعي القادم والمستقبل القريب، ورغم ما أبدعه العلماء في هذه الثنائية، إلا أنه من الواجب أن نعود لجوهر الصلة، وأُس المسألة بعيدًا عن الإكراه الظرفي لجهود المعالجة والتنظير في زمنٍ ما، وأن نستنطق الوحي الخاتم، ونستلهم هدايته في كل مرحلة، وأن نبني على اجتهاد من سبق، وألا نقف عن الاقتراب من الصواب، ولا البحث عن أحق الحقين، وأصدق الصدقين، وأيقن اليقينين، وأن نكون على وعيٍ بظرفنا وبهداية ربنا عز وجل فيه، وتنزيلها على واقعنا وحالنا، وألا يكون ظاهر وعينا هو حقيقة عِيّنا، ولا صورةُ إلهامنا هو جوهر إيهامنا!


ثنائية الوحي والوعي ( )

إن دراسة مصطلحي الوحي والوعي من حيث الورود في معاجم اللغة، وفي لسان القرآن الكريم والحديث الشريف، مما يثير التفكير، ويسترعي الانتباه، ويلفت الأنظار لجوهر هذه الصلة؛ إذ إن هذا التقابل اللفظي الرائع أصيلٌ وعميقٌ.


فمفهوم الوحي الخاص( ) المتعلق بالنبوة هو ما عبر عنه أهل العلم بأنه كلام الله تعالى المنزَّل على نبي من أنبيائه، وإعلامهم بالشرع والدين، وهذا تعريفٌ له بمعنى اسم المفعول؛ أي: الموحى، وهو "أن يُعَلِّمَ الله تعالى من اصطفاه من عباده كل ما أراد اطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم ولكن بطريقة سرية خفية غير معتادة للبشر"( ) أو هو "إلقاء الله الكلام أو المعنى في نفس الرسول، بخفاءٍ وسرعة، بملك أو دون ملك"( ) وهنا نعني الوحي المحمدي الخاتم قصرًا، وهو ما في القرآن أصالةً والسنة الصحيحة تبعًا وتبيانًا من: كلماتٍ ومعانٍ، وأسماءٍ وأحكام، ودلالاتٍ وكمالات، ومطالب وغايات، وأمرٍ وخبر، ووعدٍ ووعيد، وما أشبه ذلك، وهو بطبيعته مهيمن وخاتم {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة: 48].


وأما الوعي فأصله ضمُّ شيءٍ باستيعاب، كما يدل عليه مجمل استعمال العرب، وإن كان الخليل بن أحمد عَبَّرَ بالحفظ كأصلٍ لمادة الوعي( )، واللَّيْث( ) تكلم عن وعي مخصوص وهو: حفظ الْقلب للشَّيْء( )، وابن فارس حصر استعمال العرب لهذه المادة في أصل واحدٍ وهو ضَمُّ شَيْءٍ( )، إلا أننا بعد دراسة هذا المصطلح( ) نستطيع القول: بأن الضم المراد في مادة الوعي هو ضمٌ مخصوص، وليس مطلق الضم، أو شيءٌ زائدٌ على مجرد الضم؛ لأن مطلق الضم يدل على الملائمة بين شيئين( )، أما الضم المراد في الوعي فهو القاصد للاستيعاب والإحاطة، وهذا ما يدل عليه استعمال العرب لمادة (و ع ى)، قال المصطفوي: "أنّ الأصل الواحد في المادّة: هو حفظ مع احتواء، بأن يحفظ شيء بجعله في ضمن شيء آخر واستيلائه كالظرف، مادّيًّا كان أو معنويّا. ومن مصاديقه: حفظ العلم وجعله في القلب مستقرًا، وحفظ المتاع في محلّ، وحفظ الحديث في الحافظة، وحفظ المال في الوعاء. وأمّا مفاهيم الضمّ، والتدبّر، والجمع، والاستيعاب، والجبر: فمن آثار الأصل ولوازمه في موارده المختلفة"( ). وقال الدكتور محمد حسن جبل: "المعنى المحوري: حَوْزُ الشيء في جوفه ما يتجمع فيه حتى يمتلئ به، كالشيء في وعائه، والمخ في العظم، والمِدَّة في الجرح، وكجبر الكسر، والبُرْء على عثم، ومنه قولهم: "لا وَعْي لك عن ذلك الأمر" أي لا تماسك لك دونه: فالحوز إمساك للشيء في الحوزة"( ).


أما من حيث المفهوم فالوعي الوارد في كلام الله هو: العقل عن الله، والانتفاع بكلامه، قال قتادة في قوله الله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]، قال: "أُذُنٌ عَقَلَتْ عن الله، فانتفعت بما سمعت من كتاب الله"( )، وعرفه بعضهم بأنه: "الفَهْمُ البليغُ"( )، وعرفه آخرون بأنه: "إدامة الحفظ وعدم النسيان من سامعٍ، لما رُزق من جودة الفهم وكمال العلم والمعرفة."( )، وليس الوعي المتعلق بالوحي مقتصرًا على الحفظ كما هو شائع، لأن الله تعالى تكفل بحفظ الوحي، وصرف هَمَّ النبي عليه الصلاة والسلام إلى طلب الزيادة في العلم بمعاني الوحي ومراداته، قال الله عز وجل: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، بل نُهي النبي عليه الصلاة والسلام عن العجلة في حفظ النص، لأن الله تعالى تكفل بجمعه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم وإثبات قراءته في لسانه، بل وبيان ما أشكل عليه من أمره {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَك لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)} [القيامة]، إذًا فالتعبير عن الوعي بالحفظ فيه تساهلٌ، أو اقتصارٌ على ما له أولوية في عصر الحفظ والتدوين، أما لو نظرنا في حال النبي صلى الله عليه وسلم في تلقي الوحي لوجدنا أنه دائرٌ بين ثلاثة أفعال: الإصغاءُ والاستماع أولاً، ثم الوعي ثانيًا، ثم التبليغ والأداء والبيان لما أشكل ثالثًا، "غير أن القراءة عند السماع، وقبل تمام الإلقاء، تمنع تمام الوعي، لأن عمل اللسان بالنطق يضعف عمل القلب بالوعي والحفظ، فلذا نهى الله تعالى نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- عن أن يعجل بقراءة القرآن عند سماعه من جبريل، من قبل أن يقضى ويتمم إليه وحيه، فقال تعالى: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ}"( )، ولو تأملنا في هذه الأفعال لوجدنا أن الإصغاء شرطٌ للوعي، والوعيُ موجبٌ للتبليغ، وعليه فالمدارُ والمحور هو الوعي، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: "فليبلغ الشاهد الغائب، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع"( )، لأن الغاية المقصودة هي البلاغ لمضمون ومعاني الوحي، وأقل البلاغ أن يصل الوحي نصًا إلى من هو أوعى، فنضمن حضور الوحي على تجدد الزمان والمكان والحال، وسيمنّ الله على من يشاء بالفهم والعلم والفقه؛ فيكون أوعى بالوحي وبتنزيله على الواقع وحكمه على المتوقع.


ومادة (و ع ى) في معجم الحديث الشريف وردت بصيغ متعددة( )، وبعض ما ورد يدل على أن وعْيَ النبي صلى الله عليه وسلم هو حالةُ كمالٍ بشري في تلقي الوحي، فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول» قالت عائشة رضي الله عنها: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفَصّد عرقًا"( ).


يتنزل الوحي على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في صور شتى أشدها أن يكون مثل صلصلة الجرس، فيكون الفعل الأول والأهم هو السمع لعلوم الوحي خاصة، وبعده الفهم والعَقْلُ والحفظ، لكن التعبير بالوعي في الحال التي يكون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن يفصم عنه الوحي له دلالةٌ خاصة، لاسيما وقد ورد الوعي بصيغتي الماضي والمستمر، وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر: "وقد وقع التغاير في الحالتين، حيث قال في الأول "وقد وعيت" بلفظ الماضي، وهنا "فأعي" بلفظ الاستقبال؛ لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم، وفي الثاني حصل حال المكالمة، أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية، فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظًا لما قيل له، فعبر عنه بالماضي، بخلاف الثاني فإنه على حالته المعهودة"( )، وفيه دلالة على شرف حالة الوعي البشري في تلقي الوحي الإلهي، في تحمل وأداء كلام الله تعالى، وفي فهم مراد الله تعالى وإفهامه للناس على، وأن النبي عليه الصلاة والسلام بلغ الكمال في الوعي بالوحي، تحملاً وأداءً، وفهمًا وإفهاما؛ لأنه المبلغ عن الله عز وجل، والمعصوم عن الضلال والغواية والهوى في بلاغه عن الله {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم]، هذا الكمال البشري في الوعي عن الله، بلا عدول عن الصراط المستقيم، ولا جهلٍ من اعتقاد فاسد، ولا ميل إلى شهوة نفس( )، هذه العصمة والضمانة من هذه المعضلات الثلاث بتمامها وكمالها لا تكون إلا للنبي عليه الصلاة والسلام.


وهذا الوعي المتعلق به صلى الله عليه وسلم، والموصوف به عند تلقيه الوحي، هو المطلوب في حق من هم دونه وبعده صلى الله عليه وسلم، على قدر طاقتهم وجهدهم، قال الله تعالى: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]، بعدما قص علينا وحيًا من أخبار الأمم السالفة، فالوعي في فعل "تعيها"، وفي صفة "واعية"، دليلٌ على أن الوحي بعمومه، والإخبار عن الغيب لا يُتلقى إلا بالوعي، و"الوعي توصف به الأذن كما يوصف به القلب، يقال: قلبٌ واعٍ، وأذنٌ واعية، لما بين الأذن والقلب من الارتباط؛ فالعلم يدخل من الأذن إلى القلب، فهي بابه، والرسول الموصل إليه العلم، كما أن اللسان رسوله المؤدي عنه، ومن عرف ارتباط الجوارح بالقلب علم أن الأذن أحقُّها بأن توصف بالوعي، وأنها إذا وعت وعى القلب"( )، "الوعي صفة القلب والنفس، وإنما أسند إلى الأذن مجازا للتسبب"( )؛ ولذلك حكى الله تعالى عن الكافرين حين يقولون نادمين: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[الملك:10] "فالختم على القلوب: عدم الوعي عن الحق -سبحانه- مفهوم مخاطباته والفكر في آياته. وعلى السمع: عدم فهمهم للقرآن إذا تلي عليهم أو دُعُوا إلى وحدانيته، وعلى الأبصار: عدم هدايتها للنظر في مخلوقاته وعجائب مصنوعاته، هذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود وقتادة وغيرهم"( ).


الوعي هو المطلوب الأول أيضًا ممن سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لحديث: «نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»( ).


"والظاهر من روايات الحديث أن الوعي درجات: أولها الحفظ الصحيح المضبوط للنص، وأوسطها الفهم المباشر لمعانيه، وأعلاها الفقه في حِكمه وأحكامه وعلومه"( ).


ولأن المعنى هو المقصود من النص الحديثي، أكد العلماء على الفهم والوعي والاستيعاب لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع حرصهم على اللفظ بطبيعة الحال، إلا أن السنة ليست كالقرآن في حفظ ألفاظها؛ ولذلك جاءتنا المعاني بألفاظٍ مختلفة عن الأئمة الثقات، بل جوز بعضهم نقل المعنى وإن اختلف اللفظ، وهو أحد المذهبين المشهورين عن الأئمة، قال ابن الأثير رحمه الله: "وعلى ذلك جماعة من أئمة الحديث، لا يرون إبدال اللفظ ولا تغييره، حتى إنهم يسمعونه ملحونًا ويعلمون ذلك، ولا يغيرونه، وذلك هو الأحوط في الدين، والأتقى والأولى، ولكن أكثر العلماء على خلافه، والقولُ بالجواز هو الصحيح، فإن الحديث كذا وصل إليهم، مختلف الألفاظ، متفق المعنى، ونعلم قطعًا في أحاديث كثيرة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في وقتٍ واحد، ونقلها الصحابة رضوان الله عليهم بألفاظهم المختلفة"( ).


هذا هو مفهوم الوعي في مقابلة الوحي، وهو بمعنى ضمِّ النص وحفظه وفهم المعنى واستيعابه، تحملاً وأداءً وفهمًا وإفهامًا، والناس في ذلك درجاتٌ متفاوتة، ولذا وجب عليهم نقل العلم والتبليغ وتوسيع دائرة من يصل إليه الوحي ومن يسمع به في المستقبل؛ لعله أن يصل إلى من هو أكثر وعيًا من النقلة، فيستنطق لفظه، ويستلهم روحه، ويثوره، ويستخرج كنوزه، ويفيض بمعانيه على نفسه، ويسقي من حوله، فتُحيى الأرضُ بغيث ربها، وتُشرق بنور خالقها وهداياته، {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى].


وقد كان كثير من الرواة من الصحابة ومن بعدهم يعبرون بالوعي للدلالة على قوتهم في الرواية والدراية والتوثيق والنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بإدراكٍ وفهم، فيقولون عند التحديث "سمعته أذناي، ووعاه قلبي" كما وقع من عبدالله بن عمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص، وأبي بكرة، وعمرو بن عبسة، وأبي شريح العدوي( )، واشتهر عن قتادة رحمه الله أنه كان يقول: "ما سمعت أذناي شيئًا قط إلا وعاه قلبي"( ).

يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في قولهم" "وعاه قلبي": "تحقيق لفهمه وتثبته، وقال: ويؤخذ من قوله: "ووعاه قلبي" أن العقل محله القلب"( ).


العبرة بالآذان الواعية، والبصائر الراعية، وأصحابها في الناس قليل، بل أقل من القليل، لكنهم هم قادة الناس على الحقيقة، ونُظار الفكر بلا شك، والمؤثرون في التوجهات والأفكار، قال الزمخشري رحمه الله في تفسير قول الله عز وجل: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12]، قال: "فإن قُلتَ: لم قيل: أذنٌ واعية، على التوحيد والتنكير؟ قلتُ: للإيذان بأن الوعاة فيهم قلة، ولتوبيخ الناس بقلة من يعي منهم، وللدلالة على أن الأذن الواحدة إذا وعت وعقلت عن الله فهي السواد الأعظم عند الله، وأن ما سواها لا يبالى بهم باله وإن ملئوا ما بين الخافقين"( ).


قراءة في الثنائيات

بقراءة أفقية لتاريخ هذه المسألة، نجد أن التعبير عن ثنائية العلاقة بين الكلام الإلهي والفهم البشري قد تعددت وتنوعت على مستوى المصطلحات والمفاهيم والقضايا التابعة لهما، وأثر ذلك بشكل واضح في معرفة جيل أو أجيال، وفي أفكارهم، ومناظراتهم ومجادلاتهم، ومنجزاتهم ومشاريعهم الثقافية والفكرية والحضارية، وقد كان العلماء يعبرون بمصطلحات متعددة فرضتها طبيعة الظروف والإكراهات التاريخية التي مرت بالأمة، وكان لكل مرحلةٍ بيانها ومعالجاتها للعلاقة بين كلام الله تعالى وفهم الإنسان، وتطبيق ذلك وتنزيله في واقع الحال، وهذه المعالجات وقعت من طرفٍ ينزع للحيطة والحذر، ويقدم الإهمال على الإعمال، في اعتبار المتغيرات الظرفية وأثرها على البناء والتكوين والتموضع الفكري؛ بقصد حماية الوحي الإلهي، ويمانع كل الأفكار والفهوم والتفسيرات الجديدة، ويردها بشكل مطلق، ويكتفي بما روي عمن سبق من اجتهادات وتصورات لهذه العلاقة، ووقعت من طرفٍ آخر، ضعفت صلته بالوحي في مقابل صلته بنتاج الفكر الإنساني، وجديد الأفكار والفهوم والتفسيرات الكونية والمعرفية والأخلاقية، فيسارع في كل فكرة جديدة، ويهادن كل مفهوم رائج، ثم يجد نفسه بعد مدةٍ من الزمن أمام خيارين للتعامل مع الوحي، إما أن يجزم بأن هذا القرآن كالكتب المقدسة من قبل! وعليه أن يُعمل كل جديد من مناهج الفكر البشري في تأويل النصوص الدينية حتى تتكيف مع الوعي العصري السائد! وإما أن يرد الوحي جملةً وتفصيلاً بالتشكيك في عالم الغيب أو في إمكانية الوحي والنبوة بمبررات "عقلية".

ونجد هناك على الدوام فئة تجتهد في قراءة المسألة قراءةً مستوعبة لتطور المفاهيم والقضايا التابعة لها من خلال جهود المجتهدين من علماء التفسير والحديث والفقه والسلوك والعلوم التابعة لها في كل عصر، وتحرص على بناء الوعي وفق ظرفها وحالها، وتحاول الجمع بين الغالي في النص والجافي عنه بحلولٍ ومعالجات وتفسيرات يتحرون فيها الحق والعدل، ويُعملون مصطلحات ولغة عصرهم، ويتحدثون حديثًا منسجمًا مع الفكر والثقافة المهيمنة، وهذا في الجملة أفضى إلى نتيجتين ظاهرتين:

الأولى: ثراءٌ في الجهود الفكرية والمعالجات النظرية والحوارات الجدلية التي ترفع من قابليات الذهن في كل مرة لاستيعاب تجدد الأفكار والتجارب، والقدرة على التواصل والتدافع مع الآخر، وإن شاب ذلك نوعٌ من مخالفة المألوف، والوقوع في دائرة التهمة، وفي بعض الإشكاليات المعرفية والاجتماعية.

والثانية: فتح مجال الاجتهاد بشكل حيوي لإثارة الوحي( ) فهمًا وتأويلاً وتنزيلاً وإعمالاً للنظر والتدبر، واكتشافًا للمقاصد والغايات والعبر التي لم تكتشف من قبل، وبلورتها في صورة مفاهيم ومضامين وقضايا مؤثرة على الأفكار الرائجة والوعي العام بما يعزز حضور الوحي في كل نازلةٍ، وأصالته في كل منظور، وغناه بالمعقولات المهيمنة ليست على ذلك العصر فحسب، بل على كل العصور، بدون ارتداد أو تراجع، بل بقدرة على تجاوز الوضع الراهن إلى المستقبل، وإن شاب ذلك استبدال لبعض المصطلحات الأصلية، أو إقحام لبعض المفاهيم المرجوحة، أو تجاوزٌ للمنهجيات السائدة.

ولم تزل الأمة تعالج العلاقة بين الكلام الإلهي والفهم البشري من العهد النبوي وحتى يوم الناس هذا، وإن عبرت بثنائيات أخرى عوضًا عن ثنائية "الوحي والوعي"، ورغم أن المصطلح الفرد مؤثرٌ جدًا في بلورة المفهوم، إلا أنه أشد تأثيرًا عندما يربط بمصطلح آخر في ثنائية كبرى، كالعقل والنقل.

وهذه المسألة بحد ذاتها تحتاج لتتبع وبيان، لماذا ابتعدت الأمة عن ثنائية الوحي والوعي بعد أن استعملهما النبي صلى الله عليه وسلم والجيل الأول في التعبير عن استيعاب الفهم البشري للكلام الإلهي؟ وما مبرر ظهور المصطلحات البديلة؟ وما أثر ذلك على المفاهيم؟ وكيف هيمنت ثنائية العقل والنقل؟ وكيف نشأ افتراض التعارض بين "العقل والنقل"؟ وهل من مقتضيات التجديد العودة للثنائية الأولى؟ وما حال المفاهيم المستقرة المرتبطة بثنائيات أخرى؟ وكيف نجدد المصطلح والمفهوم والقضايا التابعة لهما؟ هذه بعض الأسئلة وإلا فإعادة النظر في ثنائية العقل والنقل ومحاولة التجديد في هذه الثنائيات لا يمكن أن يقوم به فرد ولا يدعيه، لكن بقراءة أفقية لهذه المسألة يمكن أن نلحظ ثلاثة أمور:

أولاً: كانت هذه الثنائيات -بمعنى من المعاني- فيمن كان قبلنا، فثنائية الله والإنسان، واللاهوت والناسوت، والدين والفلسفة، والعقل والدين، والعلم والإيمان، والكنيسة والعلم، كانت هذه الثنائيات ولازالت مؤثرةً وفاعلة في العالم كله، وإن انحسرت ثنائية تمددت أخرى، وإن ماتت ثنائية ولدت أخرى، وقد كان التنازع والتضاد هو الطابع العام للعلاقة بين كل هذه الثنائيات.

ثانيًا: تأثرت أمة الإسلام بطبيعة الحال بالأمم قبلها، ولم يفرق بعض أفرادها بين دينهم ودين من قبلهم، وكتابهم وكتاب من قبلهم، ورسولهم ورسول من قبلهم، ووظيفتهم التاريخية ووظيفة من قبلهم، ولم يستوعبوا أننا أمام: دين كامل، ونعمة تامة، وإسلام مرضي عنه عند ربنا عز وجل، ورسول خاتم، وكتاب مهيمن، وأمة وسط شاهدة على الناس، وتبع ذلك خوضٌ وربما استنساخ وانبهارٌ بثنائيات ومعالجات أخرى حاولت في بداية أمرها معالجة الفساد والتشويه الذي طال فهم العلاقة بين الكلام الإلهي والفهم البشري، وربما آلت في بعض صورها إلى قطع هذه العلاقة والتنكر لجوهرها بسبب التحريف الذي طال كتبهم والتزييف الذي ران على قلوب رموزهم الدينية.

ثالثًا: المتأمل بعمق في تاريخ الثنائيات الأكثر تأثيرًا في المجتمعات سيجد أنها متصلةٌ سببًا ونسبًا بالثنائية الأولى للفكر البشري: العلاقة بين الله والإنسان أو العلاقة بين كلام الله وفهم الإنسان "الوحي والوعي"، وهو مما يدعونا للرجوع لجوهر العلاقة وجذرها وأُسها، ثم قراءة تطورها قراءة أفقية تاريخية لعلنا نجد موضع لبسٍ أو تدليسٍ، أو اجتهادٍ مرجوح، أو نظرٍ غيرُه أولى منه، أو مصلحةٍ آلت إلى مفسدة، أو تطورٍ إكراهي غير طبيعي تراكم على صدر هذه العلاقة وران على قلبها؛ حتى أخذته الأجيال بالرضا والتسليم والقبول المطلق الذي يحاكم كل شيء يأتي بعده بما وصل، إليه ويغلق الباب وراءه في وجه الأجيال القادمة لتعيش انفصامًا نكدًا، فإما أن تقفل راجعةً إلى الماضي لتبعث رفاته وتعبث بأفكاره بحجة الأصالة والثبات والمحافظة، وإما أن تقطع الصلة ليس بهذا الماضي بل بالوحي الذي لم يعد ممايزًا للاجتهاد البشري لدى كثير من العقليات المدرسية والتوجهات المذهبية والمشاريع الحزبية!

وحقيقةً بالتأمل في هذه النتيجة الأخيرة "قطع الصلة بالوحي" وتوهم الاستقلال المطلق للوعي البشري، والتفرقة بين الخالق والمخلوق، وفصل إرادة المخلوق عن علم وإرادة الخالق، كيف وقع هذا الوهم في بني آدم؟ وكيف يقع في المسلمين؟ وبعد النظر والتأمل وجدتُ أن هذا مردُّه إلى خطأ واحدٍ يمكن أن يقع في جميع مجالات البحث والنظر الوجودي أو المعرفي أو الأخلاقي، هذا الخطأ البشري الذي وقع ويقع فيه الإنسان في كثير من الأحيان والأحوال، ألا وهو "سوء الحكم" كما هو تعبير الكتاب المبين، وقد أخبرنا الله عز وجل عن صورتين من سوء الحكم البشري، مقدمتهما واحدة، وسببهما واحد، وحكمهما واحد:

{وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ(56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ(57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(59)} [النحل].

{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ(137)}[الأنعام]. يبدأ الإنسان بافتراض القسمة بين الخالق والمخلوق، وأنهما في رتبة واحدة، ويجعل لكل منهما نصيبًا، ثم يتولى هو بنفسه توزيع الأنصبة، وهذا محض افتراء على الله، ومآله إلى الفساد؛ لأنه من سوء الحكم والتقدير.

قال الفخر الرازي في تفسيره: فإن قيل: أليس أن جميع الأشياء لله؟ فكيف نُسبوا إلى الكذب في قولهم: هذا لله؟ قلنا: إفرازهم النصيبين نصيبًا لله ونصيبًا للشيطان هو الكذب. وقال: والمقصود من حكاية أمثال هذه المذاهب الفاسدة أن يعرف الناس قلة عقول القائلين بهذه المذاهب، وأن يصير ذلك سببًا لتحقيرهم في أعين العقلاء، وألا يلتفت إلى كلامهم أحد البتة( ).

وفي تفسير ابن كثير: قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في تفسيره: {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} أي: ساء ما يقسمون، فإنهم أخطأوا أولاً في القسمة، فإن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه، وله الملك، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته، لا إله غيره، ولا رب سواه. ثم لما قسموا فيما زعموا لم يحفظوا القسمة التي هي فاسدة، بل جاروا فيها، كما قال تعالى: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ}[النحل: 57]، وقال تعالى: {وجعلوا له من عباده جزءًا إن الإنسان لكفور مبين} [الزخرف: 15]، وقال تعالى: {ألكم الذكر وله الأنثى(21) تلك إذا قسمة ضيزى(22)} [النجم] ( ).

وقد نبه العلماء إلى خطورة المصطلح لأنه وعاء المفهوم، وهنا ننبه إلى حساسية التقسيم والتصنيف في تجربتي الفهم والإفهام، لأنهما محددان للتفكير، ومؤطران للحكم، ومهددان للوعي مالم يكونا رهن النظر والمراجعة والتعديل لمصلحة الفهم الأوعى في كل مرحلة.

ونحن نرى كل العلوم التراثية والحديثة قد ملئت بأنواع متعددة ومتجددة من هذه التقسيمات والتصنيفات الذهنية والإدراكية؛ بغية الفهم والاستيعاب والوعي بالعلم وفروعه ومسائله ودلائله، لكنها تتفاوت في استيعابها للمعاني والمفاهيم والأفكار، فمنها ما يهيئ لمزيد من النظر والاجتهاد المستقبلي وفرص الوعي القادم، ومنها ما يفضي إلى تقويض المعنى الأصلي أو تحميله ما لا علاقة له به، أو إلى نتائج محسومة سلفًا.

وفي علوم الوحي وجدنا تطور التقسيمات والتفريعات بشكل واضح، وهي من الاجتهاد الحيوي الذي يختلف باختلاف الاعتبارات والمآخذ والحاجة الظرفية، غير أن المشكلة هي أن يكون الله طرفًا في القسمة البشرية عندما يتعلق الأمر بمسألة "العقل"، ويُجعل له نصيب، وربما النصيب الأقل، ويكون هذا وفق رأي أحد البشر أو بعضهم!

وبهذا ضلت كثير من العقول في مقدمة فطرية وحقيقة كونية؛ ألا وهي أن الله هو الخالق، والبشر و"عقولهم" كلها عبر تاريخها الطويل "ممن خلق"، وأن لله الخلق والأمر، وليس "للعقل" إلا التفكر أو الغفلة في خلق الله، والاستجابة أو الإعراض لأمره، أما أن نقبل بالمقدمات التي تفترض هيمنة الإنسان على الله، وهيمنة الوعي على الوحي، وسلطة "العقل" على "النقل" ولو بصورة غير مقصودة في الظاهر، فلا.

وفي المقابل نرى أن التجربة الإنسانية والإسلامية في محاولة فهم وتفسير العلاقة بين مراد الله وفهم الإنسان ينبغي أن تدرس بطريقة مستوعبة، لا أن يختزل كل هذا التاريخ في جدلية واحدة وثنائية محددة؛ قد تكون معبرة عن جزء من هذه التجربة، وعن مرحلة محددة لها أسئلتها وتحدياتها وإشكالاتها ومصطلحاتها وأفكارها الرائجة في حقبة ما دون أخرى.

القراءة الأفقية الكلية لابد أن تكون في خطين متوازيين، الأول يقرأ الحقب ويزمن المراحل بحسب الإضافة العلمية والمفهومية، والثاني يجتهد في استثمار القراءة الأولى لتقديم رؤية أكثر استيعابًا للكليات، وأسلم من الإكراهات، وأوفى للغة وأوعى، لمقاصد الوحي.

وليس صحيحًا أن تجمد الأمة على اجتهاد عالم أو مدرسة في فترة من الفترات، وتعتقد أن معالجاتها واختياراتها ستكون راجحة في كل خلافٍ قادم، ومهيمنة على كل فكرة مستقبلية، ومقنعةً في الجواب عن كل سؤال جديد، ووفية للحق على الدوام!

كيف لنا أن ننقل صدقية وموثوقية الرأي والاجتهاد البشري إلى مرتبة الوحي الإلهي حتى ولو كان راجحًا ورائجًا في زمن من الأزمنة، وكيف لنا أن نطالب العقل المسلم بالتسليم المطلق لغير الوحي؟!

بحسب القراءة الأفقية لجهود الأمة في معالجة هذه المسألة عبر الثنائيات المعبرة عنها في كتب التفسير لم تكن هذه الفكرة عند العلماء، بل هي مما تسلل عبر العقل المدرسي والتقليد المذهبي إلى العقل العام والفكر السائد، ولم يكن العلماء الذين صنعوا فارقًا على مستوى المفاهيم أو المنهجيات العلمية يكرسون الجمود إلى ما ذهبوا إليه، ويقفلون باب الاجتهاد ورائهم، ولم يوهموا الناس بفكرة استئناف الحق من موقعهم أو ذواتهم، بل على العكس من ذلك، كانوا يذمون التقليد، ويفتحون الآفاق للتجديد، ويحفزون على الاجتهاد، ويعلنون الصلة بالأمر الأول وبما تطور عنه من الحق والعدل والخير.

وهذا هو مقتضى قول النبي الخاتم عليه الصلاة والسلام: «نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع ورب حامل فقه وليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»( ).

كان العلماء يفرقون تفريقًا جليًا في دراسة كلام الله تعالى بين المعنى الظاهر المحكم القطعي، والمعنى الباطن المتشابه الظني، وينتقلون من هذه المرحلة التي لا لبس فيها عندهم إلى مرحلة دراسة المعنى الثاني بما يقربهم من مراد الله، فيرجحون بين فهمٍ وفهم، وقول وقول، وحكم وآخر، واجتهاد ونظيره، أيهما أقرب لموافقة المعنى الأول، وأيهما أكثر صلةً باللغة، وقربًا من الهدي النبوي، وفهم الصحابة رضوان الله عليهم، وإجماعات الأمة، والقياس الصحيح.

وظهر اجتهاد العلماء هذا في مصطلحات ومفاهيم وتقسيمات وتصنيفات ومنهجيات بعضها من بعض، غير أنه داخَلَهَا الوهنُ والعجزُ في بعض الفترات التاريخية، فَتَاهَ الجوابُ عن السؤال، وهيمن الشكُ على اليقين، وجمدت العقول على اجتهاد سابق كان راجحًا في ظروفٍ محددة.

ولو اتصلت الأمة بنسب التجديد دون التعلق بأحد أبنائه لكان خيرًا وأوعى، ولو اجتهدت في بناء النقد الداخلي الذاتي لكان أقرب إلى أهلية الأمة الشاهدة، ولو سلمت من التمذهب والتحزب والانتماءات الضيقة لكانت أوعى للفكر والعمل والتواصل اللائق بها.

وهنا جهدٌ يسيرٌ في محاولة قراءة الثنائيات التي مرت بالأمة المسلمة من خلال جهود المفسرين لكلام الله تعالى؛ لأن التفسير هو ألصق العلوم بدراسة الوحي ومن خلاله يمكن قراءة تطور وتجدد وعي الأمة به، وهي قراءة كلية عامة لم تقصد إلى الاستقراء والحصر التام، وقد برزت من خلال هذه القراءة ست ثنائيات كبرى طيلة تاريخ الأمة، وهي: الوحي والوعي، والتنزيل والتأويل، والظاهر والباطن، والحقيقة والشريعة، والسمع والعقل، والعقل والنقل.


الأولى: ثنائية الوحي والوعي:

الرسول عليه الصلاة والسلام هو المبلغ لكلام الله، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى(4)} [النجم]، وجمهور المفسرين على أن الوحي هنا هو القرآن الكريم، واستدل بعضهم بهذه الآية على أن السنة وحيٌ أيضًا( )، وأول بيان وتفسير لكلام الله تعالى هو كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا أعلم تعبيرًا للرسول الكريم دالاً على الاستيعاب لنص الوحي ومعناه إلا مصطلح "الوعي"، وهو المعبر عنه بالتحمل والأداء عند بعض العلماء المتضمن للفهم والإفهام؛ لأن الاكتفاء بالنص دون المعنى ليس واردًا هنا على الإطلاق، وبتتبعي للأحاديث التي وردت فيها مادة (و ع ى) ولها علاقة بالوحي وجدت جملة من الأحاديث التي جعلتني أجزم بأولوية هذه الثنائية على غيرها من الثنائيات المعبرة عن العلاقة بين كلام الله وفهم البشر، ومن ذلك: حديث عائشة( ) رضي الله عنها، وفيه خبر بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فيَفْصِم عني وقد وَعَيْتُ ما قال، وأحيانًا يتمثل لي الملَك رجلاً فيكلِّمني، فأعِي ما يقول"، فعبر بالماضي والمستمر، والوعي -كما قلنا سابقًا- حالة كمال بشري للنبي عليه الصلاة والسلام فيها حفظ للنص واللفظ واستيعاب للمعنى والمفهوم، وليس كما يظن البعض أن غاية ما هنالك هو حفظ النص؛ لأن الله تكفل بجمعه في قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ونهاه عن تحريك اللسان والعجلة في الحفظ! ومنها: حديث أبي بكرة( ) رضي الله عنه، وفيه: "فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع" وهذا في بلاغ كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، الشق الثاني من الوحي، وفي رواية: "إنه رب مبلغ يبلغه لمن هو أوعى له"، وكذلك حديث أبي هريرة( ) رضي الله عنه: " أنَّهُ لن يَبْسُطَ أحدٌ ثوبَه حتى أقْضيَ مقالتي ثم يجمع إِليه ثوبه، إِلا وَعَى مَا أقُول" وفي حديث عبد الله بن عمر( ) رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "القلوب أوعية، وبعضها (أوعى) من بعض، فإذا سألتم الله - عز وجل - أيها الناس، فسلوه وأنتم موقنون بالإجابة ; فإن الله لا يستجيب لعبدٍ دعاه عن ظهر قلب غافل"، هذه الأحاديث الشريفة جمعت بين الوحي والوعي نصًا أو مفهومًا، والنبي الخاتم عليه الصلاة والسلام هو الحلقة التي وصلت بين الوحي الخاتم وبين الوعي به في أكمل حالة بشرية، فهو لا ينطق عن الهوى، وفي نفس الوقت يجتهد رأيه في الاستجابة لله تعالى فيما ليس فيه نص ظاهر الدلالة قطعي المعنى، وفيه - عليه الصلاة والسلام - اجتمع الوعي البشري المطابق للوحي في معرفة مراد الله والبلاغ عنه فيكون كلامه وحيًا ابتداءً، وهذه الحالة الأولى.


أما الثانية: فهو ما عبر عنها العلماء بـ"اجتهاد النبي عليه الصلاة والسلام"، وهي حالة الوعي البشري القائم على الاجتهاد لمعرفة مراد الله، والوحي إما أن يقره أو لا يقره كما هو معروف في اجتهادات الرسول عليه الصلاة والسلام العملية، كقصة أسارى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 67]، وفي قبول عذر المنافقين: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة: 43]، وفي قصة: {عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى(3)}[عبس]، وفي هذه الحالة لا تكون مطابقة الوعي للوحي ابتداءً، بل يكون اجتهاده عليه الصلاة والسلام في النهاية وحيًا، وهذا لا يكون لمجتهدٍ قط إلا للنّبي عليه الصلاة والسلام، أقصد موافقة الوعي للوحي والفهم البشري للمراد الإلهي مطلقًا( ).


وقد استعمل الصحابة هذه الثنائية وعبروا بـ"الوعي" عن حالة الاستيعاب والفهم البليغ للوحي كما نقلنا عن مجموعة منهم فيما سبق( )، بل هي الحالة التي ينبغي أن تكون مع الوحي على الدوام، بدلالة حديث "نضّر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع"، ولذا فهي الثنائية الأولى في تاريخ الأمة المسلمة، وهي الأكثر صلة ووفاءً في التعبير عن مسألة العلاقة بين مراد الله وفهم الإنسان.


الثانية: ثنائية التنزيل والتأويل:

استعمل هذه الثنائية الإمام الشافعي (ت:204هـ) رحمه الله في التفسير والفقه، وابن جرير الطبري إمام المفسرين (ت: 310هـ) رحمه الله وغيرهما من العلماء وأئمة التفسير، بل وردت هذه الثنائية في أسماء بعض كتب التفسير، كـ"الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل" للزمخشري، و"غرائب التفسير وعجائب التأويل" للكرماني، (ت: نحو 505هـ)، و"أنوار التنزيل وأسرار التأويل" للبيضاوي (ت: 685هـ)، و"مدارك التنزيل وحقائق التأويل" للنسفي (ت:710هـ).


وقد فرق العلماء بهذه الثنائية بين مراد الله على وجه اليقين والقطع، واجتهادات وفهوم البشر الظنية والمترددة بين الراجح والمرجوح، وضمن هذه الثنائية درسوا مصطلحي "التفسير" و"التأويل" وهل هما شيء واحد؟ أم أن هناك فرق بينهما؟ على قولين مشهورين: فالطوفي وابن تيمية والزركشي والطاهر بن عاشور رحمهم الله تعالى قالوا بعدم الفرق، واختلف العلماء الذين قالوا بالتفريق بينهما في بيان أوجه الاختلاف، ورجح بعضهم أن التفسير راجعٌ إلى الرواية والأثر، والتأويل راجعٌ إلى الدراية والرأي، واعتنى بعض العلماء بمصطلح التأويل وجعلوا له قانونًا خاصًا، كالغزالي وابن العربي وابن رشد رحمهم الله تعالى، ثم توسع المتكلمون والأصوليون في استعمال مصطلح التأويل، وقابلهم مجموعة من العلماء الذين أنكروا هذا التوسع وردوا على كثير من المفاهيم والقضايا التي ربطت بهذا المصطلح( ).


والملاحظ هنا أن مصطلحي "التفسير" و"التأويل" هما من المفردات الواردة في القرآن الكريم، واستعمالهما متقدم عند العلماء، ولو أن مفهوم التأويل تطور باستعمال مقبول ولم يحُمّل فوق حمولته اللغوية والقرآنية لكان من المصطلحات الأصيلة العابرة للزمن والمتجاوزة للجغرافيا الإسلامية، ولكنه تحول إلى مصطلح إشكالي ومفهوم متهم رغم أنه مفردة قرآنية!


وبكل حال فإن ثنائية التفسير والتأويل ثنائية أصيلة، واستعمال الأمة لهما في محاولة التفريق بين "التفسير" أو المعنى القطعي المحكم الواضح في اللغة وفي استعمال القرآن وفي الآثار المروية وما يمكن الجزم به في مراد الله تعالى، وبين "التأويل" أو المعنى الظني المتشابه الملتبس في اللغة وفي الفهوم المتعددة والترجيحات المعتبرة، كل هذا من الثراء الفكري الذي رفع قابليات الأمة لمزيد من الاجتهاد في محاولة فهم العلاقة بين الوحي الإلهي والوعي البشري بشكل أدق.


وفي المقابل ظهرت ثنائية الرواية والدراية التي شاعت عند شراح الحديث النبوي واستعملها بعض المفسرين المتأخرين، وتوسعت العقلية المدرسية في الاستعمال والفصل بين الرواية والدراية؛ حتى آل الأمر إلى عُرف وثقافة سائدة تفرق بين النص والمعنى، وبين الرواية والدراية لمصلحة التمدرس وللتفريق بين العلوم، إلا أن هناك خللٌ لم يلحظه الكثير في هذا الفصل الحاد وهذا التمايز، ألا وهو افتراض جمود نصوص الوحي، وأن الحافظ للنص غير مطالب بمحاولة فهم معناه الأولي والمجمل، وبدل أن نطالب المسلم الأعجمي والطفل المبتدئ بمحاولة فهم بعض مفردات القرآن وآياته وأوامره ونواهيه وأخباره بشكل تدريجي، بدل هذا عززنا ذهنية الجمود على الحروف والأشكال بشكل تراكمي، وجعلنا هذا ليس مرتبةً ومرحلةً فحسب، بل ربما لا يطالب الحافظ لكتاب الله بغير هذا حتى وإن خرج لإمامة الناس في الصلاة! وفعلنا مثل ذلك مع الحديث النبوي، وتأثرت باقي العلوم الإسلامية بهذه القضية المرتبطة بمادة الدين والتشريع: كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.


الثالثة: ثنائية الظاهر والباطن:

في تفسير سهل بن عبدالله التستري (ت:283هـ) رحمه الله، نجد هذه الثنائية في تفسير الآيات كما في قول الله تعالى {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، قال: ظاهرها مكة، وباطنها القلب، ومِنْ حوله الجوارح( )، وفي قوله تعالى {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)}[الفجر]، قال: الفجر محمد صلى الله عليه وسلم والليالي العشر أصحابه العشرة الذين شهد لهم بالجنة( ).


بل اشتُهر عن سهل رحمه الله قوله: "وما من آية في القرآن إلاّ ولها أربعة معان، ظاهر وباطن، وحدّ ومطلع، فالظاهر التلاوة، والباطن الفهم، والحد حلالها وحرامها، والمطلع إشراف القلب على المراد بها فقها من الله عزَّ وجلَّ. فالعلم الظاهر علم عام، والفهم لباطنه، والمراد به خاص"( ) وهو ما سمي عند العلماء بالتفسير الإشاري الذي منعه البعض وقبله البعض الآخر بضوابط، لكن الجانب المشكل في هذه الثنائية هو أن عمدة التفريق بين الظاهر والباطن هو ما يجده المفسر في قلبه، ولذلك لا يمكن ضبط هذه الثنائية إلا بمقاربتها بثنائية أخرى كالمحكم والمتشابه.


ولا يفوتنا أن الإمام الطبري ممن استعمل ثنائية الظاهر والباطن، ولكنّ الدارسين لاستعماله خرجوا بجملة من المفاهيم والقواعد الضابطة التي تدل على تطور منهجي في التفسير، وهو ممن فتح المجال لدراسة القواعد والمنهجيات الضابطة في أصول التفسير وأصول الفقه، وقد شهدت الأمة بعد الطبري رحمه الله توسعًا في استعمال وابتكار المصطلحات، وفي التصنيف والتقسيم، وفي بناء المفاهيم والمنهجيات التي تجتهد في تفسير العلاقة بين الوحي الإلهي والوعي الإنساني وترجمة ذلك لأرض الواقع في شكل تصورات وأحكام ومواقف ومآلات.


الرابعة: ثنائية الحقيقة والشريعة:

تفرع عن ثنائية الظاهر والباطن - فيما أظن - ثنائية "الحقيقة والشريعة" عند بعض المفسرين، فنجدها عند أبي عبدالرحمن السلمي (ت:412هـ) وهي ثنائية مشهورة في السلوك والتصوف، لكنها تعبر عما نحن بصدده ولو بوجه من الوجوه، وممن استعمل هذه الثنائية الإمام الغزالي (ت:505هـ) وابن عساكر (ت:571هـ) وابن عبدالهادي الحنبلي (ت:744هـ) والإمام السيوطي (ت:911هـ) وغيرهم، وهي في أول أمرها محاولة للتفريق بين ما يريده الله حقيقةً، وما يظهر لنا أنه مراد لله وفق فهمنا للشريعة، لكن يبدو أنها تطورت بشكل مدرسي من اجتهادٍ في الفهم إلى قطعٍ في الحكم! فبدل أن يجتهد الدارس في البحث والنظر وتقليب الروايات وأوجه التفسير، وجدنا حال بعضهم ينزع إلى الحكم القاطع الذي تعوزه الحجة والبرهان بأن هذا حقيقة وذاك شريعة، وأهل الشرائع دون أهل الحقائق!


الخامسة: ثنائية السمع والعقل:

مرّ معنا قول قتادة في قول الله: {وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ}[الحاقة: 12]، قال: "أُذُنٌ عَقَلَتْ عن الله، فانتفعت بما سمعت من كتاب الله"( )، وكانت تعبيرات المتقدمين تشبه تعبيرات القرآن، فعبروا عن هذه الملكة والوظيفة القلبية بالفعل لا بالمصدر "العقل" كما في تفسير قتادة هذا، ثم دخل إلى الدراسات القرآنية في مواضع محدودة وبشكل غير مقنن كما في فهم القرآن ومعانيه للحارث المحاسبي (ت:243هـ)، وأحكام القرآن لأبي بكر الجصاص (ت:370هـ)، لكن يبدو أن حضوره تأكد في تراث المسلمين بفعل الجهود الفلسفية والكلامية، والجدل والخلاف على ماهيته، وهل هو جوهر أو صفة أو آلة أو غير ذلك، وبعض الباحثين في أعمال الترجمة التاريخية يشيرون إلى أن توسع الدولة الإسلامية خارج الجزيرة العربية كان له أبرز الأثر في التلاقح الثقافي الكبير بين المسلمين والديانات والملل والنحل والثقافات الأخرى، سواء الموجودة في بلاد العراق والشام، أو ما وراءها من بلاد الفرس والهند والصين شرقًا، أو الرومان واليونان غربًا، وقد ابتدأت أعمال الترجمة مع الازدهار العلمي الأموي، وبلغت ذروتها في عهد العباسيين، وبطبيعة الحال كان لكل ثقافة مصطلحاتها ومفاهيمها وتصنيفاتها وحمولتها المعرفية، وكانت ثنائية العقل والنقل من أبرز الثنائيات التي دخلت للأمة المسلمة في هذه الفترة، وقد أسهمت جهود الكندي (ت:256هـ) ومن معه بشكل بارز في إدخال مصطلح العقل بمفهومه المقابل للوحي أو للسمع والشرع، وهو من أوكل إليه المأمون مهمة الإشراف على ترجمة الأعمال الفلسفية والعلمية اليونانية إلى العربية في بيت الحكمة، وبعد ذلك تطور الاهتمام بمفهوم العقل عند المسلمين كما عند أبي بكر الرازي الطبيب والفيلسوف (ت:311هـ)، وأبي منصور الماتريدي (ت:333هـ)، وأبي نصر الفارابي (ت:339هـ) الذي توسع في استعمال مصطلح العقل، وأثر في الكثير ممن جاء بعده ممن اشتغل بالفلسفة اليونانية والإفادة منها، ويبدو أن الذي شغل البعض في أول الأمر هو إيجاد التوافق بين الفلسفة والعلوم الإسلامية الأخرى، وخاصة العلوم الدينية، وأظن أن ابن فورك (ت:406هـ) هو أول من استعمل هذه الثنائية في كتب التفسير، وتبعه الرازي المفسر فامتلأ تفسيره بثنائية العقل والنقل، واستعملت في نطاق واسع عند المتكلمين كالباقلاني والشهرستاني.


ثم دخل مصطلح النقل بدل السمع، وبعضهم يستعمل هذا تارة وذاك تارة، وقد وجدنا ثنائية "العقل والشرع" عند الراغب الأصفهاني (ت:502هـ) وهو أستاذ مفردات القرآن، والشرع عنده "نهج الطريق الواضح، واستعير ذلك للطريقة الإلهية"( ) والعقل "يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم، ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل"( )، وعنده أنهما -الشرع والعقل- هاديان للإنسان، وأنهما لا يتعارضان، وأن افتراض معارضة العقل للشرع فهذا "العقل" تعبيرٌ عن معقولات ظنية فاسدة؛ إما لعادات جارية أو لاعتقاداتٍ فاسدة( )، والعقل عنده عقلان: مسموعٌ ومطبوع، كما نقله عن علي رضي الله عنه، وعنده كل موضع ذمّ الله فيه الكفار بعدم العقل فإشارة إلى العقل المسموع، نحو: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}[البقرة:171] ونحو ذلك من الآيات، وكل موضع رفع فيه التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى العقل المطبوع( ). وناقش بعض المفسرين مفهوم العقل عند حديثهم عن قول الله تعالى: {أَفَلا تَعْقِلُونَ}، كما صنع القرطبي رحمه الله (ت:671هـ) ( ).


وقد وجدنا الإمام فخر الدين الرازي (ت:606هـ) والنسفي (ت:710هـ) وغيرهما يستشهدون بقول الله تعالى {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10] وقوله تعالى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق:37] على أن التكليف قائم على أدلة السمع والعقل، ويقصدون بالسمع ظاهر النص الذي يعرف معناه بمجرد سماعه وبدون حاجة للتنقيب والكشف عن معناه الراجح من بين جملة من المعاني، ويقصدون بالعقل أو الدليل العقلي ما فيه إعمال للفكر في محاولة الفهم والترجيح والاستنباط للمعنى الكامن أو الباطن للنص، ومن هذه "القسمة" بدأ الإشكال، إذ إن التقابل بين السمع والعقل في الدلالة على الوحي والوعي يفهم منه خلو أحدهما من الآخر عند الدارسين والمقلدة، بمعنى أن هذا سمعي لا عقلي، وذاك عقلي لا سمعي، والسمع إنما هو للوحي والنص الظاهر، وأما العقل فللوعي والمعنى الباطن!


السادسة: ثنائية العقل والنقل:

ثنائية العقل والنقل، أو المعقول والمنقول، وهي الأكثر شهرةً واستعمالاً والأوسع امتدادًا، وهي تتويجٌ للثنائية التي قبلها، وترسيخٌ ل"العقل" في مقابل "النقل"، ويبدو أنها أتت بعد تطور طبيعي في معالجة مسألة العلاقة بين مراد الله تعالى وفهم الناس له، واختلاف العلماء في التعبير الاصطلاحي عن طرفي هذه العلاقة، وقد شمل هذا التطور جميع الحقول العلمية فيما يبدو، لكن في التفسير بدا لنا أن استعمال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله (ت:606هـ) لهذه الثنائية كان مقررا ومقننا خارج مجال التفسير، ثم امتلأ تفسيره بما يدل على ذلك، وأصبحت هذه الثنائية متداولة ومهيمنة، ثم جاءت جهود الإمام ابن تيمية رحمه الله (ت:728هـ) وتوج هذا التطور التاريخي، وتجاوز مسألة الاستعمال المصطلحي إلى مناقشة القضية الأبرز، وهي دفع شبهة التعارض بين العقل والنقل، كما في كتابه "درء تعارض العقل والنقل" وفي بقية جهده ومشروعه الفكري.


وبهذا تكون هذه الثنائية دخلت في النطاق الجدلي المتعلق بتفسير الوحي من القرن الثالث الهجري وحتى يوم الناس هذا، واستقرت مذاهب الأمة فيها من قرابة ثمانية قرون على الأقل! وإن تحدثنا عن علوم الكلام والعقائد والفرق فقد تشبعت بهذه الثنائية بناءً ونقضًا وإعادة بناء وجدلاً مطردًا بالقدْر الذي جعلها قانونًا ومعيارًا وحدًا فاصلاً لا يلغيه الزمن!


وقد كانت بعض هذه الجهود كفيلةً بقيام شاخص "العقل" بمحاذاة محراب "النقل"، فما بالنا وقد امتلأت الكتب والدواوين والأفكار والتوجهات بهذه الثنائية الجدلية، وهو ما أدخل الأمة المسلمة بمجموعها في تحديات كثيرة، كانت لها أثارٌ سلبية بلا شك، لكنها بكل حال فتحت المجال لتجديد وعي المسلمين على المستوى المنهجي والمضموني والتواصلي، ولا عجب أن تبقى هذه الجدلية مؤثرة في بنية العقل المسلم ونتاجه اليوم بل وحتى تفكيره المستقبلي.

وبعد استعراضٍ لهذه الثنائيات يمكن القول بأنها تعددت وتنوعت؛ لأن لكل عصرٍ أسئلته وإشكالاته وجدلياته، ومصطلحاته الشائعة، ومفاهيمه الرائجة، وأفكاره المهيمنة.


وأن إيماننا بالكتاب المهيمن والنبي الخاتم والأمة الشاهدة يفرض علينا مزيدًا من العمل والجهد النظري والفكري للمشاركة الإيجابية في عالم الأفكار وميادين الوعي، وليس صحيحًا أن تتجدد التحديات من غير أن نحفز قدرتنا على خوض غمارها والظفر بالفرص الكامنة فيها، ونعود للصلة الأولى لننهل منها ما صفا في العهد الأول، ونترك ما كدره التاريخ.


الصلة الأولى

ما أول الإنسان؟ ومن الإنسان الأول؟ وما أوصل الصلة بين خالق العقل والمعقول( ) وبين المخلوق العاقل والمتعقل؟ هذه الأسئلة وغيرها رغم البداهة والضرورة والإلحاح الكامنة فيها إلا أن بعض الفلسفات والنظريات قد قفزت عليها، وتجاهلتها بقصدٍ أو بدون قصد، ولكن مهما صنع هؤلاء فإن سؤال الأولية لن يقفز من الأذهان، ولن يخرج من العقول، ولن يُطمَس من النفس البشرية، ولذا ففي مسألتنا هذه نسأل بكل وضوح: ما أول صلةٍ بين مراد الله وفهم الإنسان؟


وللجواب نقول: بأننا لو تأملنا قصةَ آدم عليه السلام أول البشر، لوجدنا أنه بعد خلق الله له ونفخ الروح فيه، ألهمه الله وعلمه وخاطبه، ألهمه الأوليات والقوى الضرورية، وعلمه الأسماء كلها، وخاطبه بالأمر والنهي، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}[البقرة:31] والأسماءُ مفتاح اللغة، واللغة وعاءُ المعنى، وكل ما يقوم بقلب الإنسان من معاني يمكن أن يُبين عنها بالبيان، والبيان الإنساني أيًّا كانت لغته ولهجته ولسانه فقد بدأ بآدم، وهو من تعليم الله عز وجل {الرَّحْمَنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4)}[الرحمن]، والله عز وجل تفضل على آدم عليه السلام بأن علّمه من علمه، وبه كان تفضيله على بقية خلقه {قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}[البقرة:33]، والله أمر آدم ونهاه وترك له حرية الاختيار والاتباع {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 35]، هذا في الجنة، وكذلك عندما أهبطه للأرض لم يسلبه الحرية والاختيار {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)}[طه]، هذا بعض بيانٍ للصلة بين أول إنسانٍ وبين الله عز وجل، وكلها داخلةٌ في مفهوم الوحي الإلهي للأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ومن هذه النقطة تحديدًا نكتشف جوهر الصلة، وأُس المسألة، وأصل العلاقة بين الوحي والوعي؛ إذ إن الوحي الأول هو خطاب الله تعالى لآدم، وبهذا الخطاب اجتمع الخلق والأمر الإلهي في آدم؛ فالله خلقه ونفخ فيه الروح، فتجلى فيه الكمال من جهة الخلق، ثم خاطبه وحيًا بالأمر والنهي والوعد والوعيد، فتجلى فيه الكمال من جهة الأمر؛ وبقي على آدم الاجتهاد في الاتباع في كل حياته وحالاته، وهكذا انتقلت هذه العلاقة وهذه المعادلة إلى بني آدم، ولم ولن تنفك عنهم أبدًا؛ ولذا فإن كل موافقةٍ لمراد الخالق سبحانه في أمره تنطق بها ألسنة البشر أو تتجه لها مراداتهم أو تقع عليها أعمالهم، هي من بركة هذا الأصل وهذه الصلة، وهي دليلٌ على بقاء خِلْقَةِ الله وفطرته وأصل مراده وحكمته في النفوس التي لا يمكن أن تتبدل وإن طالها التغيير واجتيال الشياطين، قال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن الله تبارك وتعالى: (إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا)( ).


هذه هي الصلة الأولى، التي ينبغي تدبرها وتأملها جيدًا، ويجب الانطلاق منها في بناء المفاهيم لنظام الوحي الإلهي والوعي الإنساني، وإن وصف الوحي الخاتم لاصطفاء الله لآدم وتعليمه وأمره ونهيه وابتلائه، واستخلافه في الأرض، واستجابته، وسلوكه في الجنة، ومعصيته، وتوبته، وتجليات قصة آدم عليه السلام وأبعادها؛ لهي مفاتيح يقينية أولية لفهم علاقة الله بالإنسان، وصلة الوحي الإلهي بالوعي الإنساني، وإن كلَّ فلسفةٍ تتجاهل هذه الأوليات اليقينية التي دل عليها الوحي لتجد نفسها في مرحلة من المراحل مضطرةً إلى ابتداع ما يحل محل هذه الأوليات ويقوم مقامها من تصورات ظنية، ومفاهيم محتملة، تثمر جملةً من الفرضيات والمصطلحات المضطربة.

وإن وصف الوحي الخاتم لإهباط الله تعالى آدمَ وزوجَه وإبليسَ إلى الأرض؛ هو مفتاح فهم قصة الإنسان في الأرض، ونشأة المجتمع البشري، وعلاقة الإنسان بظرفه المكاني والزماني والحالي، واجتهاده في الاستجابة لهدى الله تعالى وترجمة هداه ضمن هذا الظرف.


ولذا فإن النظريات التي لم تنطلق من مركزية قصة آدم ما قبل الإهباط إلى الأرض اضطرت لابتكار عالمٍ للمثل، ومدنٍ خيالية للحق والخير والجمال، والنظريات التي لم تنطلق من مركزية قصة آدم ما بعد الإهباط اضطرت لابتكار أصل الوجود الإنساني في الأرض، والنظريات التي لم تنطلق من مركزية المستقر والمتاع وقعت في الجدليات الزمانية والمكانية، والنظريات التي لم تنطلق من مركزية العداوة مع الشيطان تباينت في تفسير الشر الواقع في العالم وتحديد العدو ومعيار العداوة، والنظريات التي لم تنطلق من مركزية الهداية الإلهية اضطربت في ابتكار مناهج ومفاهيم ومضامين بشرية لدلالة البشر على الكمالات والمعاني!


وفي موضوع المعنى والمفهوم الملازم لكينونة الإنسان وحياته، نجد أن الإنسان منذ وُجِد وهو دائرٌ بين مطلوب من خارجه، ومرغوبٍ من داخله، وأعلى مطلوبٍ ما كان من الخالق سبحانه، وأَدنى مرغوبٍ ما طلبته النفس ووسوس به الشيطان، فهو بين سلطتين، وبين خطابين، ويبقى فعلُ الإنسان واختياره مترددًا بين ذا وذاك، وذلك بحكم سنةٍ وحكمةٍ كونية قدرية تجمع بين إلهية الخالق وعبودية المخلوق، وبين أمر الرب واختيار العبد، وبين الإلهام القسري والكسب الطوعي، وبين هداية الوحي واستجابة الوعي، وهذه العلاقة هي عينها ما يُفسر ما وقع لأبينا آدم عليه السلام في أول الأمر، قال الله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ(35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}[البقرة].


ومع ظهور استقلال فعل الخالق وطلاقته، وتبعية فعل المخلوق ومحدوديته، وظهور التوافق بين الكوني والشرعي في هداية الوحي، إلا أن كثيرًا من الأطروحات الفلسفية ضخّمت الكلام عن حالات النشاز، وصور اختلال العلاقة، وكثيرٌ منها قائمٌ على افتراض التكافؤ أو التنازع بين طرفي العلاقة، فظهرت النظريات الوجودية التي لا تؤمن بالإله، والمادية التي لا تؤمن بالقدر، والعبثية التي لا تؤمن بالحكمة، والنسبية المطلقة التي لا تؤمن بقيمةٍ مركزية في الوجود، وظهرت منظوماتٌ معرفية فيها ألوانٌ من الوهم البشري المُنْبَتّ عن حقائق الوحي وهداية السماء، والتي لا زال جديدها ينقض قديمها بشكلٍ يدعو لإعادة النظر في أصل العلاقة، وجوهر الصلة.


وحتى مع القفز على قانون الأولية، فإن العقول المنظِّرة قد دأبت على تعظيم منطقها، وتأصيل نظرها، وتعميق حالتها في الفكر الإنساني والكينونة البشرية بقدر استطاعتها، لأن العقول المستَقْبِلة لا تفتأ تقول لكل مُنَظّرٍ: من أين لك هذا؟ وما أصله البدهي؟ وما وجهه العقلي؟ وما أوله؟ وما آخره؟

ما أول الزمان؟ وما أول المكان؟ وما أول الإنسان؟ وما أول الهداية؟ وما أول الوعي؟ هذه أبرز الأسئلة المركزية التي شغلت الفكر الإنساني على الدوام، ولأن الإنسان ليس خلق نفسه، ولا مصدر ذاته، ولا منبع هدايته، فإنه بطريق الاضطرار يعود في تفسير الكينونة للعلاقة بينه وبين قوةٍ وسلطةٍ خارجةٍ عنه، ويظل يحاول الجمع بين الحقائق الماثلة أمام بصره وبين ما يرى أنه الحق في بصيرته، لكنَّ ابتعاده عن هداية الوحي -في كثير من المحاولات التفسيرية والتنظيرية- يقع في محاولة الترجيح بين أقوال نُظَّارِ سبقوه في محاولة الجمع بين طرفي العلاقة، ويجد نفسه في الغالب بين ثلاث طرائق تفسيرية، اثنتان منهما حدية، والثالثة توفيقية، فالأولى طريقة من شعر بالعجز، فانطلق من مشيئة الخالق وتجاهل كينونة المخلوق، وضدها طريقة من وثق في قوة الذات، فعظم العقل -كما يدعي- وتجاهل واهب العقول والمعقول! والثالثة الطريقة التوفيقية، وهي التي حاولت الجمع بين سلطة ومنطوق الخالق من جهة، واستجابة ومنطق المخلوق من جهة أخرى، فأعملت فكرها في النص المقدس السماوي أو ما يسمى النقل، وفي التصور والانطباعات البشرية أو ما يسمى العقل، وحاولت التوفيق والمصالحة بينهما.


والطريقة التوفيقية هذه موجودة في الأديان والفلسفات كلها، إلا أنها متفاوتة -إسلاميًا- بين تقديم النقل وتفويض المعنى، أو تقديم العقل وتأويل النص، أو التأكيد على عدم التعارض بين النقل والعقل، وتوجيه الجهد لطرائق الجمع وهذا هو أفضلها وأصحها، لكننا لو فكرنا في جوهر الصلة التي بُني عليها هذا التوفيق لوجدنا أنها صلةٌ افتراضيةٌ ليست حقيقية، وعلاقة مغلوطة وليست يقينية، وعليها كان تناول هذه المسألة هو عبارة عن جدل عريض ممتد.


وفي الحقيقة أننا لو نظرنا للوعي الإنساني لوجدنا أنه ليس منبتًا عن الوحي الإلهي وليس مستقلاً عنه بحال من الأحوال؛ وذلك بحكم الكينونة وقانون الخلق {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]، {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}[الملك:14].


كانت البداية بتعليم الله الأسماءَ كلها لأبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وأمره ونهيه، وهذا ما نؤمن به في جوهر الصلة بين الوحي الإلهي والوعي البشري، وآدم صلى الله عليه وسلم وقتها لم يكن يملك تجربةً مُشَكِّلةً لذهنه ووعيه، بل كان المفتاح هو تعليم الله له أسماء كل شيء، قال ابن كثير رحمه الله: يعني أسماء الذوات والأفعال المكبر والمصغر( )، وهذا التعليم من الله وحي، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51]، ثم أمر الله تعالى آدمَ عليه السلام ونهاه، فكان الوحي هو المكون الأول لوعي آدم عليه السلام، ثم بعد ذلك بدأت تجربة آدم عليه السلام الشخصية تتشكل في ضوء الاختيار الذي منحه الله له ولبنيه من بعده، وبتشكل وعي آدم عليه السلام في الجنة وبعد الهبوط إلى الأرض تشكلت تجربة آدم والجنس البشري، وهذا وغيره من البراهين هي المفسرة للمعارف الضرورية المشتركة بين البشر، وللمشترك الإنساني في المفاهيم والإرادات والنوازع والسلوك والانفعالات.

وبعد تجربة آدم عليه السلام، كانت تجارب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا أن الفارق بينهما أن الوحي كان سابقًا للوعي في تجربة آدم ومشكلاً له؛ لأنه ابتداء جنس المعاني والمعقولات لكلام الباري سبحانه في أول ذهنٍ بشري، وأول الاستجابات البشرية لأمر الخالق ونهيه، بينما كان الوعي سابقًا للوحي في تجارب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وفي حال نبينا وحبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم كان الوحي منجمًا، وكان للنبي عليه الصلاة والسلام تجربته الحياتية ووعيه الذاتي قبل نزول الوحي، وغاية ما كان منه عليه الصلاة والسلام هو حفظٌ إلهيٌ لفطرته وملته وخلقه وخُلقه المثمرة لخلوته وتحنثه التعبدي على دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام "حتى فجئه الحق وهو في غار حراء"( ) - بكسر الجيم - أي بغته( )، ثم لما كان الوحي يتنزل عليه بعد ذلك كانت حالته "الوعي" وهو الاستيعاب والحفظ والفهم للوحي الشريف كما عبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله الحارث بن هشام رضي الله عنه: كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول»( ).


وبعلاقة وعي آدم والأنبياء من بعده عليهم الصلاة والسلام بالوحي يكون افتراض وجود وعي بشري لا صلة له بالوحي مطلقًا ولا بوجه من الوجوه مجرد ادعاء من جهتين: من جهة إنكار أسبقية الوحي على الوعي البشري، وهذا خللٌ في فهم العلاقة بين الخالق والمخلوق، ومن جهة القول بإمكانية استئناف التجربة البشرية بدون الوعي التاريخي التراكمي البشري، وخللٌ في فهم العلاقة بين البشر أنفسهم؛ ولذا قال الله عز وجل: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[الأحقاف:4].


الوحي والوعي، هذه الثنائية التي وصف بها النبي صلى الله عليه وسلم حالة استقباله وفهمه لكلام الله عز وجل، هي ثنائيةٌ أصيلة في اللفظ والمعنى، وكأن هذا الأمر الذي ابتدأ بآدم صلى الله عليه وسلم وختم بمحمد صلى الله عليه وسلم هو مفتاح الهداية الأول بل والأوحد للبشرية كلها، وأن الانحراف عن هذه العلاقة الثنائية هو سببٌ جوهري متكرر للانحراف في كل عصر.


وقد كان الوحي فيمن كان قبلنا، لكنه لم يحفظ، فصار الانحراف والتبديل للعلاقة بين كلام الخالق وفهم المخلوق من جهتين، من جهة حفظ كلام الله تعالى الذي أوحي إلى أنبيائهم عليهم الصلاة والسلام، فلم يُحفظ بشكل قطعي، بل ولم يَسْلم من استبداله بكلامٍ غيره؛ ولذلك توسعت الكتابات النقدية لديهم في موقع الدين والكتاب المقدس، بل الخالق سبحانه من فهم البشر وتفسيرهم للعوالم، وبطبيعة الحال زاد الانحراف من جهة فهم المؤمنين منهم لكتبهم المقدسة التي اختلط فيها ما نزل على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وما هو محرف ومبدل باسم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فكان الانحراف فيمن سبقنا في الوحي؛ ثم في العلاقة بين الوحي والوعي؛ ثم في استقلال الوعي عن الوحي.


أما في أمة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ، فلم ولن يقع الانحراف والتبديل في الوحي إطلاقًا، لأن نص القرآن محفوظ، ولغة القرآن محفوظةٌ بحفظه، وبيان السنة للقرآن محفوظ، فالقرآن لا يزيد حرفًا ولا ينقص حرفًا، وإنما يقع الانحراف في الوعي، وفي فهم وحي الله تعالى، وفي تجدد المعاني المستنبطة من كلام الله بحسب تجدد الظروف المكانية والزمانية والأحوال والعقول.


إن الإنسان بحاجة للتجديد عمومًا، التجديد الذي يقربه من الحقائق ويباعده عن الأوهام، ويكشف له البصر ويجلي له البصيرة أكثر من ذي قبل؛ ليرى الواقع ويهتدي للمتوقع، ولا تجديد إلا بالعودة لأصل الكينونة، وأول الأمر، ثم النظر في المفاهيم والمقاربات التاريخية وتقييم علاقتها بالكينونة، وفاعليتها للظرف الكائن، وصلاحها لما سيكون، عندئذٍ لا وصاية إلا للحق، ولا نكاية إلا في الباطل، وما بينهما مجال متفاوتٌ للنظر والاجتهاد المتجدد، ومتسعٌ للوعي والفكر المستوعب، الذي يقترب بحسب اجتهاده من الحق والحقيقة في زمان دون زمان، ومكان دون مكان، وحالٍ دون حال.


إن الخلق والأمر هما مصدر أوليات الإنسان والحياة والكون، ومن رحمة الله بنا أن تكون هذه الأوليات في أذهاننا وتصوراتنا مدعومةً بنظمٍ عدة، فالخلق نظام، والتسوية نظام، والروح نظام، وتعليم الأسماء نظام، والعهد والإشهادُ نظام، والفطرة نظام، والآيات نظام، والنبوات نظام.


ألا يحق لنا أن نجدد مفهوم الوعي، ونراجع الصلة بالوحي، بعد كل هذه الأنظمة المتعلقة بالكينونة الإنسانية؟! وكيف يجوز لنا أن نركنَ إلى فرضياتٍ ومقولاتٍ بلا أنظمة كونية ولا دعائم فطرية، ثم نسمي هذا عقلاً ومنطقًا فطريًا، ثم نُجهِدُ أنفسنا في موائمة مفاهيم النقل حتى يقبلها هذا العقل!.


إن قانون الأولية هذا يفسر لنا من زاويةٍ أخرى ما في كتب الأديان والفكر والفلسفة من المقولات المطابقةِ لما في منطوق أو مفهوم الوحي -لاسيما في المسائل التي لا تدرك أصالةً بالنظر والتفكير المجرد- إذ إن لذلك دلالات عدة، منها:

1. أنه مما بقي من أصل الخطاب الإلهي والهداية الربانية لآدم عليه السلام والأنبياء من بعده.

2. أن فيه دلالة على مخبوء الفطرة الإنسانية، وبقايا خِلقة النفس السوية، وأثر نفخة الروح، وذكرى عهد الإشهاد بربوبية الخالق( ) ولا شك.

3. أنه ليس أكمل في المعنى، ولا أهدى في اللفظ، ولا أوفى للسابق، ولا أقدر على اللاحق مما في الوحي الخاتم من ألفاظٍ ومعانٍ وسلطةٍ مهيمنة على غيره، قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ}[المائدة: 48].


قانون الصلة

القياد في الطبائع والشرائع لا يكون إلا لجهةٍ ممايزةٍ عن العقل البشري ومتقدمةٍ عليه، لا أن يكون الإنسان ذاته هو من يبدع قياد ذاته؛ إذ إنه عند افتراض ذلك يبرزُ سؤال كبير: أيُّ عقلٍ له القياد؟ وأيُّ إنسانٍ هو الأول؟ وأيُّ وعي هو الميزان؟! ولذا فإن الجدليات التقليدية في زحمة التدافع الفكري والفلسفات الشمولية افترضت أن العقل في مقابل النقل، وتوهمت الإنسانَ في مقابل الله، وابتلعت مقدمةً مغلوطة، وهي: أن فعل المخلوق يمكن أن يستقل عن إرادة الخالق، وأن فَهْمَ الإنسان مُنبَتٌّ عن مراد الله، وعليه كان الجدل عبر التاريخ في محاولة الجمع بين طرفين متكافئين ومحاولة تَبَيُّن التابع من المتبوع! ومعرفة القياد هل هو أرضيٌّ أم سماوي؟! وبيان المساحة المستقلة لكل طرف وتوزيع السلطة والنفوذ بينهما، فماذا لله وماذا لقيصر؟! وبعض المنظرين جعل الخالق والمخلوق في رتبةٍ واحدة، ثم افترض التنازع بينهما، ثم تجرأ وقدم المخلوق على الخالق! والبعض الآخر أكل الطُعم وبدأ يمارس دور الوساطة بين الخالق والمخلوق، وبعضهم وجد نفسه وجهده ونتاجه الفكري في المصالحة بين الطرفين! وبعضهم انتهى به المطاف إلى فصل الأرض عن السماء، وإلى اختزال الوحي في البركة، والوعي في الحركة!


مع أن المعادلة ليست كذلك.. المعادلة ليست بين متكافئين في القوة، ولا متساويين في العلم، ولا متماثلين في القدرة، ولا متشابهين في الإرادة، المعادلة الصحيحة هي بين خالقٍ ومخلوق، وكاملٍ وناقص، وقادرٍ وعاجز، وقويٍ وضعيف، ومطلقٍ ونسبي، ومهيمنٍ ومحدود؛ ولذا فالنظر لهذه الجدليات لابد أن يكون على أساس ذلك، ولابد أن يتحول الجهد من محاولة الجمع بين الخالق والمخلوق، إلى المقارنة بين المخلوقين في ضوء هيمنة الخالق، وعندها نقول: أي عقل هو أقرب لمراد واهب العقول؟ وأيُّ وعيٍ بشري هو أوعى للوحي الإلهي؟ وأي استجابة هي أمثل لمراد الآمر سبحانه وتعالى؟ ونحو هذه الأسئلة، ونعرض لكل جدلية تاريخية فنطبق عليها هذا المنطق وهذه المعادلة: "نمايز بين الخالق والمخلوق وننطلق من ثلاثية الأطراف لا من ثنائيتها" فليس الله والإنسان طرفي معادلة، بل الله حَكَمٌ بين الإنسان والإنسان، وأن يكون الوحي في مكان العلو، وتصبح المعادلة بين عقلٍ وعقل، وفهمٍ وفهم، أيهما أوعى للوحي؟ وأيهما أكثر استيعابًا للظرف والحال والواقع؟ وأيهما أقدر على استنطاق الوحي؟ وعلى التفاعل الظرفي بثنائية الوحي والوعي؟ وسنرى عندئذٍ درجات متفاوتة من الوعي والفهم والاجتهاد، فهذا الوعي أقرب من هذا، وذاك أبعد من هذا، ومراد الله متعالٍ يقترب الناس منه في قولٍ دون قول، وفهمٍ دون فهم، وحكمٍ دون حكم، وأوفرهم حظًا من كان متجدد القرب كلما تجدد الظرف والحال، وتجددت الحاجة لأقوالٍ ومفاهيم وأحكامٍ جديدة.


وهنا جملة من المفاهيم والنتائج التي خرجت بهذا من دراسة هذه الصلة:

- الوعيُ له هذا السر، وهذه الخصوصية؛ ولذا لابد من تفعيل هذه الثنائية الغائبة "الوحي والوعي" التي لم أرَ على حد علمي من أظهرهما مقترنتين ببعضهما بما يليق بهما( )، بل في ظني أنه تم استبدالهما بجدلية العقل والنقل المفروضة على العقل المسلم في سياق من الشعور بالتبعية والضعف لما سماه الآخرون منطقًا وعقلاً!


- وإنهما –أي الوحي والوعي- لمصطلحان جديران بمدافعة غيرهما من الثنائيات؛ لما لهما من الصلة الأولية المرتبطة بالكينونة، ولما فيهما من البراءة من إكراهات التاريخ، ولما بينهما من علاقة تراتبية تفاضلية، لا علاقة تكافؤية تنازعية.


- قوة هذه الصلة بين الوحي والوعي في منح الإنسان القدرة على التعامل مع ملكة العقل بنظامها التوسعي الإدراكي، ونظام الحياة التطوري المتنوع، ونظام الظرف المتجدد زمانًا ومكانًا وحالاً.


- ارتباط الوعي الإنساني بالوحي الإلهي ليس سببًا للمحدودية والانغلاق كما يظن البعض، بل لن يكتسب الإنسان حريةً، وسعةً، وطلاقةً حقيقية منسجمةً مع الكون والحياة والإنسان إلا إن كانت صلته صحيحة بالوحي الإلهي.


- القرآن الكريم ليس على درجة واحدة من الوضوح في الدلالة، وليس الناس فيه على مستوى واحد من الفهم والإدراك، ولا يمكن حصر معانيه ودلالاته ولا حَدُّ آياته ومعجزاته، بل على النقيض من ذلك، وفي ذلك من الحكم والغايات والعبر الشيء الكثير الذي نبه عليه بعض العلماء، كالزمخشري والطاهر بن عاشور والطبطبائي وغيرهم( ) في مسألة المحكم والمتشابه الواردة في وصف آي الكتاب، ومما له علاقةٌ بموضوعنا قولهم:

o إن في تقادح العلماء وإتعابهم القرائح في استخراج معانيه وردّ المتشابه إلى المحكم من الفوائد الجليلة والعلوم الجمة ونيل الدرجات عند اللَّه ما لا يحصى.

o وفيه حث العقل على البحث والتنقير وفق هذه الصلة المتجددة، لئلا يموت بإهماله بإلقاء الواضحات التي لا يعمل فيها عامل الفكر، فإن العقل أعز القوى الإنسانية التي يجب تربيتها بتربية الإنسان، وتوسعيها بتوسع حياته على الأرض.


- انسجام هذه الصلة مع قانون التجديد المرتبط بالوحي الخاتم، إذ إنه لا وجهة فيه لنصوص جديدة ولا لتطورٍ في النص، بل بمفاهيم متجددة متعلقة ومتشبثة بالنص الوحيد، يقول الطاهر بن عاشور: "من أجل هذا كانت صلوحية عباراته لاختلاف منازع المجتهدين، قائمة مقام تلاحق المؤلّفين في تدوين كتب العلوم، تبعًا لاختلاف مراتب العصور"( ).


- قدرة هذه الصلة على كسب ثقة الواقع، والرهان على المتوقع، على خلاف الصلات الجدلية التي لا يخبو بريقها إلا حين تنتقل من الفضاء الجدلي إلى الواقع الثقافي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا تفقد توازنها إلا حين يُدفع بها إلى الشارع لتثبت وفاءها للماضي وقيامها بالحاضر وصلاحها للمستقبل.


- وفاء هذه الصلة بحاجة العقل؛ إذ إن العقل بحاجة لمفاتيح المفهوم وليس لأقفال المعنى! بحاجةٍ للمفاهيم الجوهرية لا المؤطرة، بحاجة للنور الإشعاعي لا الصندوق المضيء، وهذا الوفاء في هذه الصلة هو من خصائص الروح التي قال الله عز وجل فيها: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلاَ إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ(53)}[الشورى].


- أهليةُ هذه الصلة للنظر في التراث وتقييمه بمعاييرها الكُبرى: تحكيم الوحي في كل جدل مفهومي –انتفاء الحرج من ترجيح بعض المفاهيم على بعض– التسليم بهداية الوحي المطلقة، والعمل على تجدد الوعي بإطلاق.


- الوحي مرتبط بذات الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وخلقه وأمره، وأما الوعي فمرتبط بالإنسان وإدراكه المحدود لذاته وللآخرين وللوعاء الحياتي والكوني الذي يعيش فيه.


- فضاء الوحي ومتعلقاته أوسع بكثير من نقاط وعي البشر قاطبة وأعلى منها بكل حال، بل لا مقارنة بينهما لاختلاف المتعلق والاختصاص؛ ولذا فليس أمام نقاط الوعي إلا أن تسبح في جزءٍ يسير من فضاء الوحي.


- هذه الطلاقة والسعة والشمول للوحي الإلهي، في مقابل المحدودية والضيق والجزئية للوعي البشري تفسر لنا معنى من معاني هيمنة الوحي.

- وهذه الهيمنة ظاهرةٌ في طبيعة الخلق والأمر، ولابد أن تكون بينةً في اكتشافنا تجليات وظواهر الخلق، وأكثر بيانًا في كشفنا عن أعماق وبواطن الأمر.


- ليس للوعي البشري في مقابل الوحي إلا الاستماع له وتدبره والتسليم لقطعياته ومحكماته، وردّ متشابهه على محكمه، والإيمان بأن كل منهما من عند الله، والاجتهاد في استيعاب ما فيه من أخبار ومطالب وأوامر ونواهي وهدايات وأسرار.


- الأمة عبر تاريخها الطويل قد أبلت بلاءً حسنًا في جمع نصوص الوحي قرآنًا وسنة، وضبطها وتمييزها، وشرحها وتفسيرها، والتفنن في تدوينها وتقريبها للناس، وهذا كله من حفظ الله تعالى.


- بقي الجهد متصلاً والاجتهاد قائمًا لإثارة الوحي، والتنقيب عن معانيه ومفاهيمه وأحكامه ومقاصده، وتنزيله في واقع الحياة والناس.


- كل جهدٍ يؤول إلى نقصٍ أو قصور أو خلل في بيان هيمنة الوحي فهو ليس من التجديد في شيء، بل من التراجع والضعف الذي قد تبتلى به الأمة في فترة من الفترات، هذا إن سلم من شبهة الطعن في صدقية الوحي والتشكيك في هيمنته.


- كل الجهود والمعالجات التي تفترض انتزاع هذه الهيمنة أو دخولها تحت تصرف المخلوق، فهي أغلوطةٌ في التصور، وتجاوزٌ في الطبيعة والفطرة، قبل أن تكون مخالفةً لقوانين الحكمة والشريعة.


- وعي الناس بالوحي يظهر من خلال الاجتهادات التفسيرية والتجارب العملية، وهذان الأمران فيهما تفاوت كبير بين العلماء، فمنهم من يقترب من سلطة الوحي، ومنهم من يبتعد؛ إما لقصور في الاجتهاد، أو خلل في التنزيل.


- على الأمة أن تقارن بين الاجتهادات التفسيرية والتجارب العملية في كل مرحلة ليظهر الوعي متساوقًا ومنسجمًا مع الوحي في الصدق والهيمنة، ومع النبي الخاتم في البلاغ، ومع الأمة في الشهادة على الناس.


- الوعي في مقابل الوحي ينزع إلى استيعاب الكليات ونقلها لأوسع شريحة ممكنة من الناس نصًا ومعنى، أو نصًا إن قلّ فهمُ النَّقَلة، لنضمن بلاغ الوحي لمن هو أوعى بشكل حيوي ومستمر.


- نقل نصوص الوحي ومعانيه القطعية الظاهرة سيكون لازمًا وملازمًا للأمة المسلمة عبر الزمن، أما اجتهادات العلماء في مساحة المتشابه الظني، فنقلها لابد أن يقترن بشرط الوعي بظرفها الزمني، لأن ما كان منها راجحًا في ظرف قد يصير مرجوحًا في آخر، بل قد يكون مهملاً في ظرف ثالث، ومشكلاً في ظرفٍ رابع.


وبعد النظر والتأمل يمكن القول بأن قانون الصلة بين الوحي الإلهي والوعي البشري بعد النبي صلى الله عليه وسلم، والمنوط بالأمة المبلغة للوحي، والشاهدة على الناس، يجب أن يكون ظاهرًا جليًا في العمل على مقصدين اثنين، الأول: بيان هيمنة الوحي، والثاني: ضمان حيوية واستمرار الوعي.


آفاق الصلة

إن المقولات التفسيرية، والاجتهادات المفهومية، والمعالجات التاريخية المتعلقة بمساحة المتشابه والظني، ليست هي الكمال، ولا التمام، ولا عين رضى الرب سبحانه وتعالى، مهما حققت من ذلك ودأبت إليه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا﴾[المائدة:3]، وإلا لكانت جزءًا من الدين، ولما تأخر ظُهورها إلى ما بعد موته عليه الصلاة والسلام، ولصح أن نصف كلمات أصحابها بالصدق المطلق والعدل المطلق، وهذا بداهةً لا يكون إلا لكلمات الله تعالى ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾[الأنعام:115]، ولكنها في حقيقة الأمر محاولات واجتهادات في تجديد المفاهيم القائمة على النص الإلهي ليس إلا، وهي مفتقرةٌ دائمًا للتفكير والتحرير، وإعادة التنظير والتسطير، والانتصارُ لها إنما يكون لقربها النسبي من الحق المطلق، والاتصال السببي بالعدل المطلق؛ لأن الجهد البشري– قولاً وعملاً وحكمًا وموقفًا - من طبيعته أن يعلو في زمن ويدنو في زمن، وأن يكون كمالاً في حال ونقصًا في حال، وأن يكون له القياد في مكان والتبعية في مكان، وأن يكون صافيًا عذبًا من إنسان، ومشوبًا كَدِرًا من إنسان، ولا علاقة لهذه الأحوال والأوصاف والطبائع بمسألة الحق والحقيقة، ولا الوحي والدين، إذ الحق متعالٍ، والدين كاملٌ تامٌّ مرضيٌّ عنه عند ربنا عز وجل، ولا يلزم منه أن يكون كذلك في تمثُّلاته التاريخية، ولا تجلياته البشرية، ولا يمكن أن يقول عاقلٌ بالمطابقة التامة بين جوهر الدين الإلهي ومظهر التدين البشري، ولا بانطباق الحقائق بتمامها على بعض التجليات في مكان وزمان وحال دون بقية الأمكنة والأزمنة والأحوال، ولا الموافقة الكاملة بين المطالب السماوية والاستجابات الأرضية، ولا حلول الشرائع في الطبائع، بل المسألة غير ذلك، المسألة حيوية غير جامدة، ومتدرجة غير محصورة في درجة، ونسبية غير مطلقة، وعرضية غير جوهرية، وحالية غير لازمة، أي: أن التطابق والتماثل والموافقة تكون في مقال دون مقال، وحال دون حال، وظرف دون ظرف، وأما افتراض غير ذلك في حال غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهو وهمٌ يقود إلى وهم، وغفلةٌ في نظر المجتهد تقود إلى عقيدةٍ في سلوك المقلد، وتجاوزٌ في عمل الجماعة يُفضي إلى خلل في توجه الأمة، وهذا مما يفسر صعوبة تجديد الوعي والعودة لأصل الدين ومفاهيم الوحي، مع أن دلالات الوحي عظيمة ودقيقة في بيان فهم الإنسان واستجابته لمراد الله، حتى أن مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام –على صلتهم بالوحي الإلهي ومنزلتهم في البلاغ عن الله عز وجل- انحصرت في البشارة والنذارة! {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}[النساء:165]، بل إن مفاهيم التعليم والتزكية والهداية والاتباع المتعلقة بهم عليهم الصلاة والسلام لم تأتِ مطلقة بل مقيدة: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَ نَذِيرٌ مُبِينٌ}[الأحقاف:9]، وفي التعليم والتزكية قُيّد الموضوع بآيات الله وكتابه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة:129]، وفي الهداية: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[القصص:56]، هذا في المفاهيم والمعاني، وأما في الكلام والألفاظ والمقولات، فلم يُزكَّ منطق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمطابقته للوحي إلا ما كان في حق محمدٍ صلى الله عليه وسلم: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى(3) إِنْ هُوَ إِلاَ وَحْيٌ يُوحَى(4)}[النجم]، وفق منظومةٍ من الضمانات الإلهية العظيمة التي كانت ترعاه في الحكم والاجتهاد وتحميه من التقول على الله، {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ(46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ(47)}[الحاقة]، {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً(73) وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً(74) إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا(75)}[الإسراء]، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة:145]، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} [البقرة:120]، {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ}[الرعد:37]، إن كل قولٍ هو دون كلام الله، وكل فهمٍ هو دون مراد الله، وكل وعيٍ دون وحي الله، والعبرة في ذلك كله بالعقل عن الله، والفهم البليغ لكلامه، ونقله لمن هو أوعى على الدوام.


وعليه فلا يمكن القول في إرثنا الثقافي أن الجدل فيه محسوم، والنظر معلوم، والتجديد معدوم! إذ إن هذا ادعاء، بل إذا كانت هذه الجدليات تاريخية، وثبتت الحاجة لتجديد النظر فيها، وتقريبها، وتعميقها، أو حتى نقدها ومراجعتها، والتراجع عنها، فإنه من الضروري ألا يتصلب نظر العلماء، ولا أن يُصرّ قادة الفكر على ملازمة الخندق الواحد عندما يحمى الوطيس، وتقوى مناورات العقول وتدافعات الأفكار، بل علينا أن نُقدِّر لكل ظرفٍ قدره، وأن نكون في صف التجديد والتجويد لا في خندق الجمود والتمجيد، بل علينا أن نتراجع قليلاً – إن لزم الأمر- لرقعةٍ أوسع من المتفق عليه، وحدٍ أكبر من المشترك، ومعيارنا في ذلك كله حماية مفاهيم الوحي والذود عن حياضها اللغوية والمنطقية والتأويلية والتنزيلية، لا رعاية الشخوص والذوات والبُخل بماء وجهها أمام تجدد العقول والظروف؛ لأن المطلوب الشرعي في الثبات على الحق يدافعه مطلوب أعلى وهو: تَبَيُّنُ الحق في كل ظرفٍ جديد والاقتراب منه أكثر من ذي قبل.


إن الوعي المهتدي بالوحي: هو حالة هدايةٍ إدراكية، متجددةٍ ومتمددة، تَقْصِدُ لاستيعاب الحقائق وتجلياتها، والكليات وتمثلاتها، والمقاصد وموجباتها، في خلق الله وأمره، ببصرٍ وبصيرةٍ، وبعلم وخشية، ونقل ذلك للأجيال اللاحقة على قدر الطاقة.


الوعي بهذا المفهوم ليس جديدًا، بل هو تجديدٌ لصلة الكلام الإلهي بالفهم البشري الحياتي على الأرض، وهذا النوع من التجديد له آفاقٌ ونتائج كبيرةٌ وكثيرةٌ لا يمكن الحديث عنها في هذا الموضع، إلا أننا نلفت النظر إلى القوة الكامنة في هذه الصلة لصناعة وصياغة ذهنية الإنسان، والتي لا تحتاج إلا أن يصغي الإنسان لمصدرها بتلهفٍ وأدب، وأن يكون قلبه وعاءً لمفاهيمها، وذهنه متحركًا بأساليبها، وأن يحذر من التقديم بين يدي الله عز وجل، لعله أن يلهمه الصواب ويدله على الحق وألا يكون من الغافلين عن نوره وهدايته، قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}[ق:37]، وقال صلى الله عليه وسلم: "القلوب أوْعيةٌ، وبعضها أوْعى من بعض، فإذا سألتم الله عز وجل، أَيها الناس، فاسألَوه وأَنتم موقنون بالإجابة، فإن الله لا يستجيب لعبدٍ دعاه عن ظهرِ قلبٍ غافل"( ).


خاتمة

أعترف في الختام بأن هذه الأسطر ماهي إلا إثارةٌ للتفكير وتحفيزٌ لإعادة النظر، وإنني أعي حجم المجازفة -ولو على سبيل الادعاء- بالقول بأن ثنائيةً كالعقل والنقل بحاجةٍ للتجديد على مستوى المصطلح والمفاهيم والقضايا التابعة لها، ولولا ما وجدت من دلالات لغوية، واستعمالات قرآنية ونبوية، وتصورات كلية، لما يممت وجهي تلقاء هذه الرؤية، ولما قصدتُ تنبيه من غَفَلَ عنها.


وأكاد أجزم بأن القارئ الكريم قد وجد في ثنايا هذا الكتاب أسئلةً في ثوب أجوبة، وشكًا في بطن يقين، ونقدًا في معرض تسليم وموافقة، وهذا -في ظني- خير نتيجة يمكن أن يصل إليها هذا الطرح الذي يحفز على حيوية واستمرارية الوعي.


ولعلي أتنبأ بمستقبل فكري واعد، وقدرة فائقة على المساهمة في عالم الأفكار، وصناعة المفاهيم، وبناء النماذج الإدراكية، والتأثير في النظم المعرفية، متى فهمنا الصلة الأولى في هذا العالم بين الوحي الإلهي والوعي البشري، وطورناها وبلورناها في أفكار ومشاريع إيجابية سليمة بنّاءه ووفية لقانون الصلة وجوهرها، ومتى سلمنا من بعض الجدليات التي آلت إلى العبثية والعدمية وقطع الصلة بين الله والإنسان.


وإن فقه العلاقة بين الوعي والوحي ليرشحنا لفهم بقية متعلقات الوعي ومسائله الحياتية، فالوعي بالذات، والوعي بالتاريخ، والوعي بالمستقبل، والوعي بالقضايا الوجودية والمعرفية والأخلاقية والوظيفية لا تخرج بحال عن فهم الخلق والأمر المرتبط بالأوعية الثلاث التي ارتبطت بكينونة الإنسان: الكون والحياة والنفس.


الهوامش

١- قال عليٌ رضي الله عنه: "إلا فهمًا يؤتيه الله عبدًا في كتابه"، وقال ابن القيم: "فالفهم نعمة من الله على عبده، ونور يقذفه الله في قلبه، يعرف به ويدرك ما لا يدركه غيره ولا يعرفه، فيفهم من النص ما لا يفهمه غيره، مع استوائهما في حفظه، وفهم أصل معناه" [التفسير القيم:45].[باب بدء الوحي، صحيح البخاري (1/ 6)].

٢- أصل هذا الكتاب بحثٌ منشور بعنوان الوحي والوعي على الانترنت بموقعي مركز نماء وموقع الألوكة بتاريخ 25-26/3/1437هـ.

٣- ستضاف بقية حواشي الكتاب لاحقاً إن شاء الله.

٤-