نقد المهارة

    25 سبتمبر 2024

نقد ابن تيمية المنطق، ونقد إيمانويل كانت العقل، ونقد مالك بن نبي الحضارة، ونقد الجابري العقل العربي، ونقد عبد الله الفيفي القيم. كان النقد ولازال مؤثرا في تاريخ الأفكار والعلوم، وفاعلاً في المنجز المعرفي والثقافي والحضاري القديم والحديث.


يختلف النقد بحسب السياق التاريخي، والباعث النقدي، والعمق التحليلي، والنتائج والآثار، لكنه يطال المفاهيم والأطر والنظريات والأقوال والممارسات السائدة، ويعبر في جوهره عن التمرد على الادعاء والمغالطة والخلط الذي يتلبس به البعض بمقولة العقل أو غيرها من المقولات والكمالات البشرية.


وفي زمننا هذا تشبع الفضاء العام والتعليمي على وجه الخصوص بالحديث عن المهارات، أيا كانت أساسية، حياتية، لغوية، اجتماعية، رقمية، وظيفية، متعلقة بالتفكير، أو الاتصال، أو العمل، أو غيرها من الحقول والأغراض التي تأثرت بالموجة المهارية.


دُفع بمقولة المهارة لكل المستويات، فكثرت الترجمة والنسخ واللصق بشكل رتيب ووظيفي حتى تكلس الجهد العملي، وندر الاجتهاد النظري، وأصبحت المهارة ادعاءً والعمل عليها روتيناً، وتفشى ذلك فى في الكيانات والأفراد، ليس الكل، ولا البعض، بل الأعم الأغلب!


ومع فرض الاشتغال على المهارات، وتوسيع دائرة المفروض عليهم، أصبحت المهارة مقرراً مدرسيا، ومحتوى للحفظ والتسميع، واسماً في سيرة، ورقما في شهادة، ومظهرا في وظيفة.


معلمٌ في معهد تدريب تقني يدرس الطلاب المهارات الرقمية ولا يستخدم أي وسيلة رقمية! بل كل ما في الأمر أنه يطلب منهم تصوير المقرر، ويطلبون منه في المقابل تحديد مقدار النصوص والصفحات التي سيسألون عنها في الاختبار! معلمة تدرس الطالبات فنون التلوين الصوتي وهي لم تدربهم على موقف تفاعلي أو حوار أو أغنية! كيانٌ صناعي يخرج طلابا لا يصنعون! وكيانٌ اجتماعي يفصل العامل عن مجتمعه! واعظٌ تحول من مهارة التأثير والاقناع إلى ترديد وتلاوة الأحكام! داعية إلى اجتماع الكلمة وهو لا يملك مهارة التعامل مع المخالف! إذا غلبت هذه المظاهر وتعددت في مجتمع ما فقد وقع في الادعاء الموجب للنقد.


المهارة مرادفة للدربة في العربية، والملكة في لسان ابن خلدون، وقد اختصر فيلسوف الاجتماع في القرن الثامن الهجري فلسفة المهارة في أمرين: الأول: أنها تحدث عن طريق التكرار والممارسة، والثاني: أنها تنتقل بفعل التكرار والممارسة فتكون صفةً في أول أمرها، ثم حالا في بعد ذلك، حتى إذا رسخت أصحبت ملكة. المهارة ببساطة هي أن تفعل الشيء، ثم تكرر فعله، ثم تستمر في فعله حتى تكون ماهراً فيه. المهارة تبدأ من العمل والتنفيذ والممارسة والغمر في وسط صناعي أيا كانت الصناعة. قد تسبقها المعرفة بقليل، وقد ترافقها، وإن سبقت المهارة المعرفة فلا ضير. لكن أن تتحول المهارة إلى معرفة وتداول معرفي لا علاقة له بالواقع فهذه ليست مهارة!


كنا بالأمس القريب بحاجة لنقد المهارة، لكننا اليوم بحاجة لما بعد نقد المهارة. اليوم داهمت الروبوتات والذكاء الاصطناعي والمساعد الافتراضي ونماذج اللغة الكبرى العالم لتهدد المهارات الدنيا والروتينية في كل العالم، بل وعما قريب ستهدد المهارات المتوسطة المعتمدة على أنواع التفكير الاستدلالي والنقدي والتحليلي والاستقرائي والاستنتاجي والقدرة على اتخاذ القرارات وبناء السيناريوهات وإعادة السرد وتنظيم المعلومات بحسب الاحتياج بدقة وسرعة فائقة، ومن المتوقع مستقبلاً أن تهدد كل مهارة روتينية حتى ولو كانت عليا.


وسيبقى للإنسان المهارات الأذكى التي تتطلب وعياً ذاتياً يقوم على المرونة في التفكير واللباقة في التواصل، والخروج عن الأنماط والسياقات المحكمة، لغرض الجهد المعتمد على الحدس والتنبؤ المحض، والاجتهاد المتعلق بالملكات العليا واعتبار الاستثناءات، وتهيئة فرص للوعي بالجديد غير المتوقع.


لا تذكرني هنا بالبعد الأخلاقي وحوكمة التقنيات الحديثة، لأن هذا سرعان ما ينجز من صناع التقنية والمنظمات الدولية والحكومات، ولا تستبعد سيناريو محتمل وقائم إذا لم تملك شواهد لسيناريو أكثر احتمالية. مع التقنيات الحديثة الوعي مهدد، والقيم مهددة، والمهارة مهددة، وليست العبرة في مقاومة هذا التهديد، بل في استباق الواقع والتحضير للمتوقع.


وإن كنت تحن للماضي فثورة الذكاء الاصطناعي اليوم هي أكثر استيعابا منك للتراث في شكله وصورته، وكمه وكيفه، بل وفي عمقه الابتكاري، من محتوى معرفي ومنجزات علمية ونماذج تفكير وجهد تأسيس لأصول العلوم والفنون والآداب.


نحن بحاجة لنقد المهارة على المستوى الفلسفي والنظري لكن ليس في بيئة أكاديمية لا صلة لها بالمجتمع والسوق والتقنية، بل لابد أن يكون النقد بعقلية المشاريع والشركات الابتكارية والتقنية التي تشتبك مع التقنيات الحديثة بشكل عملي متدرج ومستمر، لا لتدرب الموظفين على مهارات تقنية فحسب، بل لتبتكر نماذج آلية تساعد الإنسان على اكتساب مهارات مرنة ومتجددة من الطفولة حتى سن متقدمة، ولتمهد للتكامل بين الإنسان والآلة في كل القطاعات، ولتحد بشكل ذكي من أضرار التقنيات الحديثة على الإنسان والمجتمع والعالم.


خالد العماري

جميع الحقوق محفوظة ©