الفهم والإفهام

    31 يوليو 2018

يرى بعض العلماء أن السموات والأرض والجبال امتنعت عن حمل الأمانة لأجل خلوها من العقل الذي به يكون الفهم والإفهام، وفي المقابل حمل الإنسان الأمانة لقدرته على أن يفهم معناها، وأن يفهم غيره كيف يكون أمينا، حتى مع وجود الظلم والجهل المرتبطين بكينونة الإنسان.


وقد اعتبر الجاحظ مدار الكلام بين الناس، والغاية التي يجري إليها القائل والسامع إنما هي الفهم والإفهام، وقالت الحكماء «من لم يؤت من سوء الفهم، أتي من سوء الإفهام»، وصنف الشيخ محمد السنباوي الأمير - أحد فقهاء المالكية ومن علماء اللغة في القرن الثالث عشر الهجري - كتابا أسماه «غاية الإحكام في آداب الفهم والإفهام»، لعظم هذه المسألة في الفقه والوعي والتواصل بين الناس، وقال بعضهم: كم زلت الأقدام، وتشعبت الأنام، وتقطعت الأرحام، لتباين الأفهام!


الفهم: عملية استقبال وتعقل للمعاني والأفكار والآراء، والإفهام: إرسال ذلك للغير بصورة مقبولة ومقاربة.


ونحن في واقع الأمر نجهد في «فهم» الأمور قبل الحكم عليها، وقبل أن نحدد موقفنا منها، ويحسن بنا أن نحاول «تفهم» الأحوال والأحداث والأحكام شيئا فشيئا، وهذا حق معرفي وعملي وأخلاقي.


وفي المقابل نجتهد في «إفهام» الآخرين أفكارنا وأحكامنا واختياراتنا وما وصل إليه علمنا، وجميل بنا أن نحاول «تفهيم» الآخرين وإيصال ذلك إليهم شيئا فشيئا، وأن نرحب بـ «استفهامهم» لما أشكل عليهم ولم يظهر لهم بالشكل المطلوب.


هذه المسألة التي أدركها علماء اللغة ونظار الفكر والوعي تخبر عن حقيقة عظيمة، قد تتلاشى مع عصر السرعة وفوضى المادة وطغيان البهرج من حولنا، الحقيقة التي تقول بفرادة الإنسان في الخلق، واختصاصه بالمعنى، وارتباط وعيه بالحال والظرف الذي يعيشه، وحاجته للتراكم المعرفي، ولعامل الزمن والتؤدة، ولتهيؤ فرص الحضور الذهني والإقبال النفسي والشهود القلبي.


إن هذا الاختصاص في حيوية وحرية الإنسان ينأى بالمعلم أن يرمي الطلاب بالسوء دون أن يجتهد في الفهم والإفهام، وينأى بالأم والأب أن يجزعا من ضعف استجابة الأبناء دون إن يجتهدا في إسماعهم والسماع منهم، وينأى بالمدير أن يختزل الإدارة في قراره واختياره دون بيان رأيه بوضوح وتبين رأي موظفيه بصدق.


وإذا كان الوعي ينزع إلى استيعاب أكبر قدر من المعاني والأفكار المتعلقة بأمر ما، والخروج بتصورات كلية فإنه في الواقع يصقل ويتشكل ويتكون بين الاستقبال والإرسال، والبيان والتبين، والفهم والإفهام، ولن نصل لحالة الوعي ونحن نفترض أنها عملية أحادية، ولن يعي أحد بمجرد الاستقبال والسماع من الآخرين، ولن تكون أهلا للوعي بمجرد إرسال المطالب وإلقاء الخطاب على الآخرين!


إن أكثر الناس قدرة على استيعاب المعاني والأفكار هم من يرسلون ويستقبلون بشكل مرن وحيوي وبصورة جيدة، كما أن المعاني والأفكار التي تطرح في جو من الحوار والتشاركية والتواصلية هي أمتع للنفوس وأكثر نضجا في الأذهان من تلك التي تلقى جامدة هامدة من طرف واحد.


إن قدرتنا على الفهم والإفهام تبدأ من وعينا بهما وبدورهما أولا، وبالجهد في الفهم والاجتهاد في الإفهام، وبممارسة ذلك في أمورنا كلها، مع الزوجة والأولاد، ومع المعلمين والطلاب، ومع البائع والمشتري، و بالدربة تنمو قدرتنا على ذلك، و سيتمايز بعضنا على بعض بسرعة الفهم وحضور الذهن ومرونة التفكير وإن اشتركنا في الحد المعقول والواجب من فهم ذواتنا والآخرين والعالم من حولنا.


لننم وعينا وقدرتنا على فهم الآخرين والاستماع لهم، بنفس القدر الذي نريد منهم لفهمنا والسماع لنا؛ فإن هذا من شروط بناء الوعي الفاعل والمؤثر.



خالد العماري

جميع الحقوق محفوظة ©