"المقاربة المفهومية" سر تفوق النماذج اللغوية

    29 ديسمبر 2024

مقال منشور على منصة ذكاي thak.ai.sa :


من منظور فلسفة البيان العربي وإنتاج عباقرة العربية، يمكننا مقاربة ما أنجز اليوم في الذكاء الاصطناعي التوليدي، والنماذج اللغوية الكبيرة LLM مع غايات البيان التي تحدث عنها أساتذة البيان العربي، وفي مقدمتها، الكشف عن المعنى الخفي وإظهاره، كما يقول الجاحظ (ت 255هـ/868م)، عبر دلالات البيان الحصرية الخمسة: اللفظ، الإشارة، الخط، العقد، والنصبة.


هذه الغاية بوساطة الدلالات الخمس التي تكلم عنها الجاحظ دفعت تمام حسان (ت 1432هـ/2011م) إلى القول بأن الجاحظ جعل البيان علمًا للدلالة على المعنى، قبل أن يُختزل لاحقًا ليصبح علمًا للدلالة على المفردات في البلاغة المدرسية.


الجاحظ، بعبقريته، كان المؤسس الحقيقي لفلسفة البيان عند العرب، حيث ربطه بالمفهوم القرآني، أعظم نعمة علمها الله للإنسان، وامتن بها عليه بعد خلقه.


تأثير الجاحظ تجاوز علم البلاغة التقليدي؛ إلى الرؤية البيانية للكون أو ما يعبر عنه البعض بـ"البلاغة الكونية"، فقد ثوّر المفهوم القرآني للبيان وربطه بالسياقات الكونية والوجودية، وسبق زمنه برؤية شاملة للغة الطبيعية، التي عرّفها بطريقة أوسع من التعريف السائد لها اليوم في معجم الذكاء الاصطناعي، حيث أضاف إلى النص والكلام والإشارة والعقد دلالة الحال، أو "النصبة" كما يسميها، والتي تتجلى في الكون الذي جعله الله آية ودلالة قائمة ومنصوبة، وفي كل حال ناطقة أو صامتة.

دلالة الحال هذه ترتبط بالمنطق الوجودي Ontology والمتضمن للبعد المعرفي Epistemology لا الرياضي الخوارزمي Algorithmic Logic فحسب، وهذه الرؤية البيانية تجعل الدلالة على المعنى غايةً أساسيةً للبيان، وإطارًا أوسع لما أسميه بـ"المقاربة المفهومية"، فإذا كان الفهم وهو جهدنا في التفكير واستقبال وتحمل المعنى، والإفهام هو جهدنا في التعبير وإرسال وأداء المعنى، فإن المقاربة المفهومية: هي جهدنا المرن واجتهادنا الحيوي للفهم والإفهام، بتوظيف كل دلالات البيان لفهم المعاني والمباني والسياقات الداخلية والخارجية، وبوساطة العلم وما تجدد من طرائقه وأساليبه والإفادة من كل أداة معتبرة يشترك فيها العقلاء وأصحاب المنطق والشأن في كشف المعنى، وتجليته، وتجديده، وتداوله.


هذا المفهوم ينطبق على الطريقة التي تعمل بها النماذج اللغوية الكبيرة في الحقل التقني، مثل GPT أو BERT، والتي تعتمد على تقنيات حديثة مثل Transformers، وهي معمارية تعتمد على آليات الانتباه لفهم العلاقات بين الكلمات في السياقات الطويلة، فعلى سبيل المثال، عندما يُطلب من نموذج مثل GPT-4 كتابة نص فلسفي، فإنه لا يعتمد فقط على تحليل الكلمات، بل يقوم ببناء شبكة من العلاقات الدلالية التي تتيح له فهم المعاني في سياقها الأوسع.


وهو ما يجعل المقاربة المفهومية الحيوية والمستمرة امتدادًا طبيعيًا لهذه الغاية، حتى في النظر لذكاء الآلة وطريقة فهمها للمدخلات، وتحليلها للبيانات، وتدريبها باستخدام تقنيات التعلم العميق، مثل تعزيز الدقة في المهام المعقدة من خلال التعلم التوليدي لتوليد المحتوى الجديد.


التطور الذي نشهده في النماذج اللغوية يضعنا أمام منعطف جديد، فليس التحدي الحالي هو في قدرة النماذج على فهم البيانات أو توليد النصوص، بل التحدي القائم والقادم هو في قدرتها على تحقيق "المقاربة المفهومية"، التي تتطلب تفاعلًا ديناميكيًا مع السياقات، واستيعابًا عميقًا للمعاني بأبعادها الفلسفية والوظيفية.


الجاحظ الذي وصف البيان بأنه "اسم جامع لكل شيء يكشف لك قناع المعنى"، وضع الأساس لهذه الرؤية البيانية الممتدة؛ فالبيان في جوهره، يتجاوز الألفاظ ليصل إلى شبكة من العلاقات الدلالية التي تُعيد تشكيل المعنى وتجديده، وهو ما يعيننا على فهم المقاربة المفهومية باعتبارها عملية بناء نموذج شامل يربط بين المعنى والسياق والدلالة والاجتهاد المرن والمتجدد والمستمر في مقاربة المعنى والاقتراب من المطلوب الآني، مما سينقل المنافسة القادمة بين النماذج اللغوية لتجاوز تحليل النصوص، إلى أن تصبح جزءًا من نظام معرفي متشابك يعيد بناء المعاني ديناميكيًا بالتفاعل مع المستخدم، وتحقيق مزيد من الاندماج والحوار الذي يولد المزيد من النصوص المدهشة والمعينة للمستخدم على رفع مستوى الفهم والإفهام تجاه موضوع ما.


النص المثالي هذا الذي يولد الآن بعد اعتمال عميق بين تجربة المستخدم مع الآلة، وتجربة الآلة مع المستخدم، في التفكير والتعبير الثنائي والمزدوج، مما يحقق المقاربة المفهومية بشكل إجرائي ولو في درجة من درجاتها.


المقاربة المفهومية بين الإنسان والآلة هي سمة التنافس القادم، لكنها ليست نهاية الغايات، فللبيان غايات أخرى تتقاطع مع المقاربة المفهومية، غايات اجتماعية ونفسية وجمالية وما ورائية، ومنها ما أشار له ابن الأثير (ت 637هـ/1239م) بقوله "شيئان لا نهاية لهما: البيان والجمال"، وهو ما يمكن أن نقول عنه استدامة التعبير عن المعاني بأساليب تضع الاختلاف والتنوع في إطار جمالي وجودي، ينقل بعض أسرار البيان الذي علمه الله للإنسان للآلة الخادمة والمسخرة للإنسان، حتى يصل الإنسان مع الإنسان وبوساطة الآلة الذكية لما يشبه السحر في التوليد والتعبير عن المعاني الجميلة، و"إن من البيان لسحرًا".


خالد العماري

جميع الحقوق محفوظة ©