10 سبتمبر 2024
إذا كان السؤال مهما في أي حقبة مضت، فهو أهم في هذه الحقبة التي نعيشها، والتي ظهرت معها منتجات الذكاء الاصطناعي، المحاكي للذكاء البشري، والعازم على على التفوق عليه!
تتعدد الأسئلة وتختلف مستوياتها، فهناك السؤالات الأخلاقية، والسياسية، الثقافية، والتنموية. لكن سؤال الوعي والسؤالات الفلسفية هي أعمقها بلا شك؛ أذ أنها متعلقة بالصورة الكبيرة والمقاصد والغايات، والرؤى الاستراتيجية.
العقل الفلسفي يتساءل قبل ظهور التقنية وأثناءها وبعدها، وبطريقةٍ تخرج عن أسلوب التفكير الذي يفرضه صناع التقنية وتجارها والمستثمرون فيها، لذلك يُعتبر هذا العقل نقدياً بالفطرة، إشكالياً بالضرورة، وربما يوصم بعدم فهمه للواقع واستيعابه للمتوقع!
لكن بنظرة عجلى في كثير من الأسئلة الفلسفية نجد أنها فتحت آفاقا للوعي، ونورت بصائر في حقول كثيرة، والأهم من ذلك أن أي تقدم تحدثه البشرية هو لزاما مستبطنٌ لعقلية فلسفية نقدية.
وقد جاء اليوم الذي تحضر فيه الفلسفة من جديد – مع افترض غيابها – في هذا اليوم الذي تحاكي فيه الآلة العقل البشري، محاكاة سطحية أو عميقة، منجزة أو في طورها للإنجاز؛ فالذكاء الاصطناعي يحاكي المنطق الرياضي، والذكاء الاصطناعي التوليدي يعتمد على دلالات التفكير والتعبير عند الإنسان، نصا وصورة ورمزا، بغية الوصول للذكاء الاصطناعي العام.
انطباعات أولية:
تُرى ماهي الانطباعات الأولية عند الفلاسفة اليوم عن الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد؟ وما الأسئلة التي أثاروها والمسائل التي استشكلوها حول المنجز من هذه التقنية؟ وهل قدموا سرديات أو سيناريوهات لمستقبلها القريب والممكن؟ وكيف يتعاملون مع الضجة الإعلامية والغمر التسويقي المصاحب لخروج هذه التقنيات للسوق والناس؟
بالطبع هناك أسئلة يطرحها الجمهور العام المستخدم لهذه التقنيات والمستشرف لجديدها، من مثل: هل سنفقد وظائفنا؟ ما الوظائف المهددة اليوم؟ ما المهارات اللازمة حتى نستمر في أعمالنا؟ ما مصير أبنائنا وطلابنا في حال تحولت كثير من المهام للروبوتات والذكاء الاصطناعي؟ هل يمكن أن تتفوق هذه التقنيات على الذكاء البشري؟ هل لها عقل ومشاعر؟ هل تعي وتدرك ذاتها؟ هل ستأتي أجيال منها تتفوق على الجيل البشري؟ هل سنندمج مع آلاتنا الذكية؟ أم سندخل معها في صراعات وحروب؟ هل يمكن أن يتسبب الذكاء الاصطناعي المستقبلي في خراب العالم ونهاية الحياة؟ كيف ستتعامل هذه الآلات الذكية مع الإنسان والأديان والأوطان؟ هل هي مهددة للأخلاق والقيم؟ هل نحن في نهاية الزمن الذي يسقط فيه الإنسان في شر أفعاله؟
السؤال الفلسفي:
وكذلك السؤال الفلسفي، يدور حول هذه الموضوعات لكن بطريقة وصياغة مختلفة، من مثل: هل يمكن للآلات أن تُظهر سلوكاً ذكيا؟ وهل السلوك الذكي يستلزم وجود عقل؟ هل الذكاء في جوهره خوارزمي سواء كان بشرياً أم آليا؟ وهل هناك وعي وذكاء خارج الجسد الإنساني؟ ما الإشكالات التي ستثيرها هذه التقنية على المستوى المعرفي والأخلاقي والتربوي؟ وما تأثيرها في الإنسانية والمجتمع؟ ما آثار هذه الثورة التقنية على مفهوم الدولة والسيادة والمجتمع ومظاهر الديمقراطيات وحقوق الإنسان وحقوق الملكية الفكرية؟ ما التحيزات ستقع فيها الآلة متجاوزة تحيزات الصانع لها؟ ما هو موقعنا إن تفوقت الآلة علينا في التفكير وإنجاز المهام واتخاذ القرارات؟ هل يستطيع الذكاء الاصطناعي السيطرة على العالم في يومٍ ما؟
تفكير الآلة:
يعود تاريخ دراسة إمكانية قيام الآلات بالتفكير إلى منتصف القرن العشرين، حيث طرح آلان تورينج، أحد رواد علم الحاسوب، سؤالاً حول قدرة الآلات على محاكاة الذكاء البشري. وقد ساهمت جهود الآباء المؤسسين للذكاء الاصطناعي المحاطة بالحراك الفلسفي والعلمي المتسائل، وخاصة ماله علاقة بفلسفة العقل، وفلسفة اللغة إلى ظهور أنظمة قادرة على التعلم من البيانات واتخاذ قرارات معقدة، وفتح المجال من جديد لتساؤلات أخرى حول طبيعة الذكاء البشري ومستقبل الذكاء الآلي والعلاقة بينهما.
ومنذ ذلك الحين، شهد هذا المجال تطورات كبيرة، واهتم به العديد من الباحثين والفلاسفة، مثل هوبرت درايفوس وديفيد تشالمرز ودانيال آندلر، الذين ساهموا في تحديد مفهوم الذكاء الاصطناعي وأبعاده الفلسفية.
ويمكن وضع عناوين كبيرة للإشارة إلى الاشتغال الفلسفي بتفسير الذكاء الاصطناعي، والكشف عن منازع التفكير في آثاره وأخلاقياته، ومن ذلك[1]:
الذكاء المحوسب:
بدأ اهتمام الإنسان بإنشاء آلات ذكية مع آلان تورينج في منتصف القرن العشرين، واليوم أصبح الذكاء الاصطناعي حقيقة واقعة، حيث تستخدم الخوارزميات لتحليل البيانات واتخاذ القرارات، محاكية بذلك بعض قدرات العقل البشري. ومن الأولى الاتجاه للعلوم البينية، ليست الإنسانية فحسب، بل الإنسانية مع الآلية، وهنا نجد من أطلق على هذا الاشتغال الذكاء المحوسب وحالياً فلسفة الذكاء الاصطناعي.
الذكاء خارج الإنسان:
توقعت حنة آرندت سيطرة الآلات على العديد من المهام البشرية، وأن ذلك لم تعد مجرد تخيل. فمع تطور الذكاء الاصطناعي بشكل متسارع، أصبحنا نشهد تحولًا جذريًا في طبيعة العلاقة بين الإنسان والآلة، هذا التحول يطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول هوية الإنسان ومستقبله في عالم تهيمن عليه التكنولوجيا.
منطق الذكاء الاصطناعي[2]:
تتيح خوارزميات التعلم الآلي الحالية أداء مهام متنوعة بدقة وكفاءة عالية، مثل تحليل البيانات، واتخاذ القرارات، وترجمة اللغات، وتستند قدرة هذه الأنظمة على معالجة كميات هائلة من المعلومات، وتتعلم أنماطاً جديدة بشكل مستمر، مما أعاد النظر للمنطق وعلومه، وخاصة المنطق الرياضي.
مكانة الإنسان:
تطرح ميغان أوجيبلين سؤالًا أساسيًا: هل الذكاء الاصطناعي يمثل شكلًا جديدًا من الذكاء؟ أم أنه مجرد انعكاس لذكائنا نحن؟ هذا السؤال يصبح أكثر أهمية مع تطور هذه التقنيات وتأثيرها المتزايد على حياتنا اليومية، وتقول بأن التفكير الأساس هو في مكان الإنسان الواقف اليوم بين الآلة والحيوان والإله! وإن الأنظمة المستخدمة في هذه التكنولوجيا كروبوت "تشات جي بي تي" وكل خوارزميات المحادثة تشبه إلى حد كبير سجناء أسطورة الكهف في "جمهورية" أفلاطون.
وعي الآلة:
أثار عالم الإدراك ديفيد جون تشالمرز جدلاً واسعًا بتقديره لاحتمالية ظهور ذكاء اصطناعي واع بنسبة %20 خلال العقد المقبل، ومع ذلك، سرعان ما استدرك تشالمرز مؤكدًا أن تحقيق ذكاء اصطناعي قادر على محاكاة الفكر الإنساني بالكامل أمر شبه مستحيل، وذلك بسبب تعقيدات الدماغ البشري والحدود الحالية للتكنولوجيا.
عند تشالمرز ما يسمى ب " الواقع المضاف"[3] الذي يمكن اعتباره رحلة محيرة للعقل عبر عوالم افتراضية، تسلط الضوء على طبيعة الواقع ومكانتنا فيه، ويستند في ذلك على فرضيتين: الأولى: أنه يمكن محاكاة الوعي في جهاز كومبيوتر، مع مداخل منطقية تحل محل نقاط الاشتباك العصبي والناقلات العصبية في الدماغ. والثانية، أن الحضارات المتقدمة سيكون لديها إمكان الوصول إلى كميات مذهلة من المعلومات ذات القدرة الحاسوبية العالية.
اللغز المزدوج:
يتحدث دانيال آندلر[4] عن الفروق الجوهرية بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري، وأنه برغم التقدم الكبير في مجال الذكاء الاصطناعي، تبقى الهوة شاسعة بينه وبين الذكاء البشري؛ فالبشر يمتلكون قدرات على الفهم والتقييم والتفاعل الاجتماعي تتجاوز مجرد حل المشكلات بطريقة آلية، وبينما يبرع الذكاء الاصطناعي في معالجة البيانات وأداء المهام الروتينية، يفشل في فهم السياق الاجتماعي والأخلاقي الذي يحيط بهذه المشكلات، ويقدم آندلر تحليلاً عميقًا لطبيعة الذكاء البشري، مؤكدًا على أهمية العواطف، الخبرات الشخصية، والوعي الذاتي في اتخاذ القرارات، ويحذر من خطر الاعتماد على ذكاء اصطناعي "زومبي" غير مدرك، ويثير تساؤلات حول كيفية حماية الإنسان من سيطرة الآلات والشركات التجارية الداعمة لها.
تأنيب الروبوتات:
يتناول مارتان جيلبير[5] في كتابه تأنيب الروبوتات قضية أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، ويطرح تساؤلات حول القيم الأخلاقية التي يجب أن تحكم سلوك الروبوتات، ويسلط الضوء على المخاطر المحتملة لتفويض الآلات اتخاذ القرارات، خاصةً في ظل عدم فهمنا الكامل لسلوكها، ويحذر من أن إعطاء الآلات صلاحيات اتخاذ القرارات قد يؤدي إلى نتائج غير متوقعة وخطيرة.
الشك التحليلي:
وبكل حال يدعو ستيف وولغار[6]، وغيره من الخبراء، إلى ضرورة إعمال الشك التحليلي في التعامل مع التكنولوجيا الجديدة والحديث عن مدى تأثيرها، وتبني منهجية الشك التحليلي في دراستها وخاصة ناله علاقة بالذكاء الاصطناعي.
العقل الفلسفي عادةً ما يتعامل مع هذه التقنيات بالتأكيد على أهمية طرح أسئلة عميقة وتفصيلية حولها، وعدم الاكتفاء بالردود السطحية أو الافتراضات المسبقة، ويؤكد على ضرورة البحث الدقيق عن الأدلة والبيانات التي تدعم أو تنفي هذه الافتراضات، وتحليلها بشكل نقدي ومنطقي، ويشجع على تبني موقف متواضع تجاه المعرفة، والاعتراف بأن فهمنا لهذه التكنولوجيات قد يكون ناقصًا أو خاطئًا في بعض الأحيان، وأن التجربة والتكرار هما أساس بناء معرفة صلبة حول الذكاء الاصطناعي وآثاره على المجتمع.
خاتمة:
الشك في الجديد قد يكون علامة مرضية إذا كان الحامل على ذلك اليأس النفسي والكسل العقلي والركون للواقع، لكن الشك التحليل والتساؤل المثير والنقد الموضوعي مفاتيح للوعي، ومولدات للأفكار التنموية والمشاريع الذكية والتنافس الحضاري.
[1] مقال الذكاء الاصطناعي يؤرق الفلاسفة ويشكل تحدياٍ أمامهم، مارلين كنعان، اندبندنت عربية، الجمعة 22 ديسمبر 2023، ومصادر أخرى.
[2] وضع الخوارزمي الأسس الرياضية للحسابات التي تعتمد عليها الحواسيب اليوم، وطور تورينج الأسس النظرية للذكاء الاصطناعي.
[3] يوسف وقاص، نظرية المحاكاة: الافتراضي الذي صار عالمنا الحقيقي، مجلة المجلة، 22 نوفمبر 2023.
[4] في كتابه "الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري: اللغز المزدوج" ترجمة جلال العاطي.
[5] مقال الذكاء الاصطناعي يؤرق الفلاسفة ويشكل تحدياٍ أمامهم.
[6] لماذا يعتبر الشك التحليلي مهم لتغطية الذكاء الاصطناعي، تقرير عن الذكاء الاصطناعي، اليونسكو، دليل معلمي الصحافة، 2024.